شعار قسم مدونات

فوز ترامب ليس غريبا على العالم

U.S. President-elect Donald Trump and his running mate Mike Pence address their election night rally in Manhattan, New York, U.S., November 9, 2016. REUTERS/Mike Segar

ربما كان فوز دونالد ترامب مفاجأة للكثيرين ممن أعتادوا حساب الأشياء بمنطقها الأخلاقي أو منطقها الظاهر أو العقلاني أو بالحسابات الجامدة، فالرجل فعل كل شيء يجعله يخسر، إذا كانت الأمور تمشي بمنطق القياس على المعطيات الظاهرة التي اعتادوا عليها، على الرغم من أن الشأن السياسي/الاجتماعي يتميز بالتعقيد الشديد بأكثر من تعقيدات نظريات الفزياء، فهو يتعلق بالإنسان وتقلباته ومزاجه الذي لا ثمة مؤشر جامد يستطيع أن يحكمه وتتداخل في تشكيل آرائه أبعاد نفسية وشخصية وعقلية وعاطفية، ويتأثر بكل ما يجري حوله لحظة بلحظة في زمن سقطت فيه غالبية حواجز الاتصال والتواصل بين البشر في العالم كله.

 

لذلك فمن كان يراقب ما يجري في العالم منذ 3 سنوات فقط كان سيدرك أن ثمة تقدما كبيرا يحرزه المستبدون وتحرزه الأفكار الشوفينية والإنغلاقية القائمة على نقاء أو أفضلية بشر قومية على قومية، والقائمة على الخوف من الآخر، والشعور بالتهديد، أفكار جعلت الربيع العربي ينقلب إلى خريف، وتنزوي غالبية أفكار التحرر السياسي والانفتاح الاجتماعي في مقابل موجة متصاعدة/غير منطقية، تقوم على عودة الاستبداد وصعود الشعبوية وعودة "الأوغاد" ممن ساهموا في تدمير بلادهم، وإفقار شعوبهم، ومن عجب أن يتم هذا عبر تأييد كثير ممن كانت أفكار الحرية والانفتاح والبحث عن الحق والعدل من أجلهم، وذلك بعكس ما يعد منطق للأشياء.

 

وهو أمر ظن الكثيرين أن الولايات المتحدة الأمريكية بعيدة عنه، واستثناء رغم الحالة ما بدا واضحا من انتصار "الأوغاد والحمقى" على أفكار التغيير والتحرير التي أنطلقت منذ خمس سنوات أو قبل ذلك في مناطق مختلفة في العالم.

 

كان هذا يحدث بشكل متتالي في العالم، بشكل ارتدادي وكأن ثمة تحالف غير معلن، معنوي/شعوري بين هؤلاء يمتد في بلدان العالم المختلفة، الأمر الذي جعلني عبر مشاهداتي المختلفة خلال عملي الصحفي ومتابعتي اليومية للأحداث السياسية والاجتماعية طوال الفترات الماضية، أطرح على نفسي هذا التساؤل "إذا كانت أوروبا والربيع العربي وأمريكا الجنوبية تشهد حالات تراجع وارتدادات ناحية الاختيارات الأكثر سوءا وتسود فيها أفكار هؤلاء "الأوغاد" بأيدي "الحمقى"، فلماذا تكون أمريكا مختلفة أو بعيدة عن ذلك؟!"

 

طوال هذه المدة من السنوات الماضية جعلت الدرس الأول في تقييم ما يجري بأن الإنسان أكثر تعقيدا من تحليل سلوكه بشكل خطي، خاصة في هذا العصر الحديث القائم على الخوف وتعظيم المكسب الفردي والأنانية ولو بانتهازية واضحة

فما حدث في اليمن وعودة الرجل الذي ثار عليه شعبه، ليقود حربا عليه مرة أخرى وعلى الدولة التي أنقذته وأعطته قبلة الحياة لم يكن منطقيا بحال من الأحوال، لم يكن عودة الحزب الوطني في مصر وتصدر مرشح الدولة العميقة أحمد شفيق للانتخابات على كل من أطلق عليه مرشح الشباب أو الثورة أمرا منطقيا أيضا للكثيرين ممن اعتادوا حساب الأمور بهذه الطريقة المنطقة/الأخلاقية/المبدئية.

 

كما أنه ليس منطقيا أن يتصدر الثمانينيون رئاسة دول أغلبها من الشباب، كما في الجزائر وفلسطين ولبنان وتونس، والأكثر غرابة أن لهؤلاء مؤيدون كثيرون، يحملون أفكار متكلسة تقوم على الرغبة في الاستقرار "المزيف".

 

وليس أيضا منطقيا، في ظاهر الأمر، أن يصمد بشار الأسد كل هذه المدة أمام ثورة شعبه قبل أن تتحول إلي حرب مفتوحة للكل ضد الكل، في زمن تتسيد فيه أفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، في وسائل الإعلام وتنفق من أجلها مؤسسات ودول الملايين، وهو الأمر الذي يمكن القياس عليه فيما يجري في مصر وليبيا وأماكن كثيرة في العالم العربي.

 

وإذا مددت الخط على استقامته، فسترى صعودا للأفكار اليمينة، الرافضة لإنقاذ الإنسان اللاجئ الهارب الفار بحياته نتيجة تواطؤ ما يسمونه العالم الحر ضد خياراته في الشرق الأوسط، وهو ما يظهر جليا في شرق أوروبا، بينما جاء استفتاء بريطانيا حول الخروج من الاتحاد الأوروبي، بما يحمله من تداعيات سلبية على الاقتصاد والاجتماع والعلاقات الخارجية، ليمثل صدمة كبيرة خاصة مع كل التوقعات "المنطقية/العقلانية" التي رأت أن البريطانيين لن يضحوا بالخروج من الاتحاد الأوروربي مع وضعهم المميز فيه، لتأتي اللحظات الأخيرة لتفاجئ الجميع بأن الأصوات الصاعدة من بين كل هذا الزخم الإعلامي والمنطقي، هي التي تسود وتحقق انتصار بفارق ضئيل للغاية.

 

وحين تدير وجهك إلي أمريكا الجنوبية، تجد كولمبيا تقدم مثالا آخر على العناد والرغبة في تحقيق نصر كامل، لن يأتي غالبا، وذلك عندما طرح على الناس المواطنين هناك استفتاء على إيقاف الحرب بين المجموعات المسلحة والدولة، والممتدة لسنوات طويلة، لأسباب متعددة، لتأتي النتيجة وبفارق ضئيل، بـ"لا"، وهو أمر ظاهري ومنطقي غريب، لكن ثمة أفكار ورغبات أخرى ليست سائدة على السطح، تصعق من كان يظن أن الكل سيتنفس الصعداء هناك ويحقق الناس عدالة انتقالية.

 

طوال هذه المدة من السنوات الماضية جعلت الدرس الأول في تقييم ما يجري بأن الإنسان أكثر تعقيدا من تحليل سلوكه بشكل خطي، خاصة في هذا العصر الحديث القائم على الخوف وتعظيم المكسب الفردي والأنانية ولو بانتهازية واضحة، دروس عديدة لم يرغب أحد في إدراكها تقول بأن "الحمق أو اللامنطق أو الشعبوية" التي سادت في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، من الممكن أن تسود في عصر الحداثة والتكنولوجيا وحقوق الإنسان، ومن الممكن أن تفاجئنا هذه الأفكار بالصعود والبزوغ بقوة في اللحظات النهائية وغير المتوقعة.

 

الدرس الأبرز في كل ذلك أنه بينما نحاول "عقلنة" و"مَنطقة" الأشياء كان ثمة من نصفهم "بالحمقى والأوغاد" يسيرون بخطى ثابتة وواثقة بين الناس حاملين أفكارا قد تكون حمقاء، لكن لها منطقها عند المنتفعين من وجودهم، والمتأثرين بأفكار الخوف من المجهول وغير المألوف، الانتهازيين الذين لا يبالون بغير أنفسهم، عازفين على أوتار الطمع والرغبات الضيقة، يروجون لما يعتبره الحالمون أنه "حمق" لن ينصت إليه أحد، بينما هو يسود ويتمدد من تحت أنوفهم. فهل نعيد التفكير في قياس الأمور ومنطقها وفلسفتها!!