شعار قسم مدونات

في ذكرى الدكتور مصطفى محمود

blogs-مصطفى محمود

عندما كنت طفلًا صغيرًا، كنت أتشوق لذلك الناي الحزين الذي يعلن بدأ برنامج "العلم والإيمان"، لأنني كنت أعلم أن الدكتور مصطفى محمود سيأخذني في رحلة جديدة معه لأكتشف العالم من راحة منزلي.

إلى أين يا ترى ستكون الرحلة هذه المرة؟ هل إلى غابات أفريقيا، حيث أتعلم عن القبائل البدائية، وطرق معيشتها؟ أم إلى الفضاء، وكواكبه المتناثرة؟ ربما حديث عن المريخ، أو الصعود على القمر؟ ولربما كان بعيدًا عن هذا كله، فكان حديثًا حول مسألة الموت، وماذا بعده؟ حقًا لا أبالي، فالشيء الوحيد الذي كنت متأكدًا منه، أنه شيء سيذهلني، وسيشعل عقلي فضولًا.

اليوم أنا في بداية عقدي الثالث، ومجموع حصيلتي من كتبه، قرابة العشرين كتابًا، ولكن ذلك مازال بعيدًا عن شمول مؤلفاته كلها.

كبرت، وودعت رعونة المراهقة. ولكنني أيضًا استقبلت أسئلة ثقيلة: لماذا أنا هنا؟ لماذا نحن هنا؟ كيف وجدت؟، أبي وأمي والمدرسة والمسجد يقولون لي أن الله أوجدني، لأعبده. ولكن المشكلة في هذه الأسئلة أنه لا يصح فيها تلقين الإجابة. لا بد على كل أمرؤ أن يجد جوابها بنفسه.

كنت أفتش يومًا في مكتبة أبي القديمة، فوجدت كتابًا يدعى "أينشتاين والنسبية"، كان اسم المؤلف مألوفًا، ولكنني تفاجأت أن مقدم برنامج العلم والإيمان يكتب كتبًا أيضًا! فبدأت أقرأ، وأقرأ، مستمتعًا بنفس الأسلوب السلس المسلي الذي اعتدته في برنامج العلم والإيمان، ولحسن حظي، لم يكن كتاب "أينشتاين والنسبية" الكتاب الوحيد في مكتبة أبي للدكتور مصطفى محمود، فانهلت على كل ما وصلت إليه يداي قراءةً وتدبرًا، ولم أجد إرهاقًا أو أي شيء من هذا القبيل، لأن كتب الدكتور تسلي أكثر من قراءة الروايات! ولقد كانت تلك الكتب آخر ما أقرأ قبل نومي، ولربما كان هذا خطأ فادحًا، لأنك لن تستقبل النوم بعد أن يشعل الدكتور رأسك أسئلةً.

اليوم أنا في بداية عقدي الثالث، ومجموع حصيلتي من كتبه، قرابة العشرين كتابًا، ولكن ذلك مازال بعيدًا عن شمول مؤلفاته كلها، فمؤلفاته تجاوزت الثمانين كتابًا. ومع ذلك أستطيع أن أجزم اليوم، أن العشرين كتابًا التي قرأتها، كونتني. فأزال من صدري كل الشكوك كتاب "حوار مع صديقي الملحد"، وأنار دربي في رحلة البحث عن الحقيقية، رحلة الدكتور الشخصية "رحلتي من الشك إلى الإيمان".

وفتح على فكري مدارك واسعة كتابه "علم نفس قرآني جديد"، حيث قدم نظرية علم نفس جديدة مبنية على الوحي القرآني، والتي هي بالنسبة لي نظرية أشمل وأدق من علم النفس الحالي، ولا أنسى كتاب "لغز الحياة"، والذي أمسك فيه الدكتور بيدي في جولة في نظريات الحياة والتطور والطبيعة. وغيرها كتب أخرى، لا يسعني ذكرها هنا.

لم يترك الدكتور مجالًا إلا كتب فيه، فله مؤلفات في الفلسفة، والعلوم، والدين، والسياسة، والمسرح والقصة والرواية! ومع اتساع دائرة مؤلفاته، وعمق مواضيعها، أستطاع الدكتور أن يقدمها كلها بأسلوب سهل شيق يناسب الجميع.

كم مرة أذكر أنني تلفظت بالشهادة عندما أنهيت أحد كتبه، لأنني وقتها شعرت أنني أسلمت الآن! فقبل كل هذا لم أكن سوى وارث للإسلام. والاقتناع بالإسلام شيء آخر تمامًا.

إنه لأمر جميل حقًا أن تترك هذه الدنيا دون أن تغادرها! بأن تضع بصمة تساهم، ولو قليلًا، في تغيير هذا العالم.

الإقتناع بالإسلام يعني رحلة من التفكير والبحث بأسلوب منطقي بعيد عن كل الأهواء والإفتراضات. وهذا دون يد تساعدك أو ترشدك أمر شبه مستحيل. والحمد لله أن الدكتور دون رحلته وشكوكه وأسئلته، فبذلك اختصر على الناس الكثير. وكان يدًا ترشدك إذا ما ضللت الطريق.

"أنا حقابل ربنا بشوية كلام؟!". هكذا قال عندما كان يتحدث في أحد اللقاءات التلفزيونية، فلقد وصف قرابة التسعين كتابًا بـ "شوية كلام"! ولهذا لم يتوقف إنتاج الدكتور على هذه الأمور، فقام بإنشاء مسجد في القاهرة، وأسماه باسم أبيه: "محمود". وألحق بالمسجد ثلاث مراكز طبية، وأربع مراصد فلكية، ومتحفًا للجيولوجيا!

قبل سبع سنوات، ذهبت روحه الطيبة إلى لقاء ربها. ولكنها لم ترضى أن تترك هذه الدنيا قبل أن تترك شيئًا عظيمًا من نورها. الدكتور مصطفى محمود أدرك أهمية الإعلام في نشر الوعي الذي يؤدي بدوره إلى نهضة الشعوب، فقام باستخدام كل الوسائل التي وصل إليها، لنشر رسالته.

أتأمل كثيرًا في الفضل الكبير للدكتور عليَ مع أنني لم ألقه يومًا، وأتخيل عدد الأشخاص غيري الذين تأثروا به. إنه لأمر جميل حقًا أن تترك هذه الدنيا دون أن تغادرها! بأن تضع بصمة تساهم، ولو قليلًا، في تغيير هذا العالم.

"ســيدى .. مولاي .. مليكي..
مـا بيدي شيء .
مـا بملكي شيء .. مـا بوسعي شيء.

إلا ما أردت وأودعت واستودعت.
إليك أَرُد كل الودائع .. لاستثمرها عندك وبكرمك.
إليك أَرُد أَبدع ما أَبدع قلمي فهو جميلك.

وإليك أَرُد علمي و عَمَلي و اسمى و رسمي فهو عطاؤك.
و إليـك أُسلم روحي فهي من نفختك و جسدي فهو من كلمتك و نفسى فهي من أنفاسك.
 

ثم أُسلم لك اختياري.
ثم أسلم لك سِرِّي.
ثم أسلم لك حقيقتي .. و هي أنا.
 

وحسبي أنــت .."

– الدكتور مصطفى محمود

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.