شعار قسم مدونات

أين وطني؟ أنا لا أراه!

blogs - egypt
"أين وطني؟ أين وطني أيها المتقاذفون بالحجج والأدلة، المتمادون في التحريف، حتى نسيتم في غضبكم لأي غرض تغضبون!، أين وطني أيها الجيل السائر أمامي، الطالب مني الخضوع والامتثال، فما تركتم لي غير ميراث موزع، مقطع الأوصال، وها أنا ذا بين ترددكم وترددي في عناء وشقاء!" تتساءل أمي، عن وطنها، في ندوة أقامتها في بيتها، وطنها الكبير الذي قسّمه سايكس وبيكو.

لم يَمْحُ هذا الكلامَ غفوةُ أخذتُها في عربة المواصلات، فاستيقظتُ أبحثُ عن وطني في السيارةِ، فرأيت السائق يضع عشرين جنيها في جيب أمين الشرطة. لم أتعبْ بحثًا، فأنا سأجد وطني مخبأً في مكان ما، ظللت أبحث وأنظر للناس بتساؤل حتى استغربوني، ذهبت للبيت متعبا من شدة البحث في الشوارع والأشياء.

أيٌها الوطن، أينما كنت، فاعلم أنّي أحبك، لكن لماذا لا تحبنا أنت، لماذا لم تظهر حينما ارتشى أمين الشرطة.

سألت أمي إن كانتْ تعرفُ أين الوطن، أجابَتْني أنهُ موجودٌ في أرواحنا فأنكرتُ عليها، فقالت قولَتها المُعتادة "وإن جيت وجبتهولك؟!"، جئتُ لأبي وسألتُه عن الوطنِ فكان جوابُه: ششش يا  للحيطان آذانٌ تسمعُ وتبلغُ، ففهمت ضمنًا أن الوطن يكرهُ الحيطان، وأن الحيطان تكرهُ الوطن لأنها تشي بمن يبحث عنه، سألتُ عن الوطن في السجن، فوجدتُ رسائلَ المعتقلين مكتوبةً على الحيطان التي تسمعُ الحنينَ ولا تُبَلّغهُ لذويه الباكين على بُعد أحبّائهم، عندها أَقرّت لي الحيطان بكرُهِهَا للوطن قولًا وعملًا وتبيلغًا.

خرجتُ للشارع من جديد، حيثُ منطقة الزمالك، باحثًا عن الوطن، سألتُ ذلك العسكري الذي كان يحرس إحدى السفارات الأجنبية، سألته إن كان يعرف أين الوطن الذي يحرسه، فلم ينتبه لسؤالي لأنه كان مشغولًا بحراسةِ الوطن ومعاكسةِ تلك الأجنبية الماشية في دلال.

ذهبتُ لأركب مواصلة عامة، وجدتُ تجمعا في موقف السيارات، قلت في نفسي أني سأسأل هؤلاء الناس لعل منهم سامعًا يجيب، فوجدتُ حلقة من السائقين يتعاركون فيما بينهم من سيطلع أولًا، ومن سيأخذُ زبائن من؟ عرفت أنهم يبحثون عن الزبائن لا عن الوطن فمضيتُ ناكسًا رأسي كأني فشلت.

وجدتُّها، بالتأكيد سأجدُ الوطن في الجامعة، استقليتُ سيارةً للجامعة فرأيتُ لافتةً كبيرةً لندوةٍ تحملُ عنوان "الإرهاب وخطورته على الوطن" إنهم يتكلمون عن الوطن، بالتأكيد يعرفون أين هو! دخلتُ فوجدتهم يُخوِّنون الشباب، وعندما خرجتُ سمعتُ بنبأ اعتقال صديقي على يد أمن الجامعة. كلا، مستحيل! صديقي لا يمكنُ أن يؤذي الوطن، لقد كان يُنادي بالعدل وخروجِ مَنْ أحاطَتْهمُ السجون بحيطانها.عدت للبيت يائسًا، كتبتُ رسالةً قصيرةً لذلك المدعو وطن.

"أيٌها الوطن، أينما كنت، فاعلم أنّي أحبك، لكن لماذا لا تحبنا أنت، لماذا لم تظهر حينما ارتشى أمين الشرطة، لماذا لم تظهر حينما يتعارك الناس ويقتلون بعضهم، لماذا لم تظهر حينما يُحَرِّف الإعلاميون، لماذا لم تظهر حينما استغل التجار، لماذا لم تظهر حينما يوّزع الحشيش في الأفراح، أو حتى لماذا لم تظهر حينما عاكَسَ العسكريٌ، حارسُك، تلك الأجنبية.

أيها الوطن أنا لا أدري لماذا نحبُك ونحن نجرعُ سياطك، لكن ربما نحبك لأنك في أرواحنا كما تقولُ أمي.

أيٌها الوطن، إن كنت رجلًا فتعال، واظهرْ لذلك الصبيّ الصغير، وتلك الفتاةُ التي كَبُرَتْ ولم يكن بجانبها أبوها الذي سُجِنَ باسمك. اظهر لأمهما التي تُدراي الدمع عنهما، وتَعُدُّ على أصَابِعَها نُقودًا تُدَبِّرها بِتَقَشُّفْ لئلا ينكشف عنها الستر في غياب بَعْلِها، أنا لا أسألك منة عليهم يا وطن، أسألك حقهم في الحياة معًا، في أن يكبروا معًا، بسعادةٍ لا يغمرُها خوف!

أيها الوطن أنا لا أدري لماذا نحبُك ونحن نجرعُ سياطك، لكن ربما نحبك لأنك في أرواحنا كما تقولُ أمي، لا أدرى لأي مدى سنظل نحبك ونأكل سياطك معا. هل تدري أنك صرت تشبه تلك القبور في بلدتنا؟ لا ينتشر فيها سوى الهدوء و الرذيلة والحشيش، نعم صرت قبرًا بمسمى وطن، قبرًا كبيرًا، وعُشًّا للفاسدين الفاسقين.

ربما ندعك ونرحل ذات يوم، من يدري؟ فجحيم الظالمين فيك لم يعد أهون من جحيم الآخرين.
لا تحزن يا وطني إن رحلنا، لكن اعلم تمام العلم، أننا لم نختر الرحيل عنك، إلا حينما أُجبرنا على البقاء في الجحيم. لا بأس إن رحلنا، فالطفل يفلت يد أمه أن تمسكه، ويعود لها باكيا من ذاك الحجر الذي جعله يتعثر.

هدهد علينا يا وطن، يامن لا نراك، ودع صديقي يعش حياته الطبيعية، أو لا تدعه، فربما أنت الآخر محبوس، محبوس مع صديقي في سجن واحد، ومحبوس في أرواحنا لا نملك الشجاعة بعد، لنخرج صوتك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.