شعار قسم مدونات

هل القرآن إرهابي؟

blogs - quran
يُثار هذه الأيام في غير مكان أنَّ القرآن الكريم أحدُ مُحفزات الإرهاب وصِناعة الإرهابيين. وهي نَغمة يَعزِفها بعضُ منحرفي الفكر والعقل، مطموسي البصر والبصيرة، الذين يُغيَّبون عقولهم، ويُوقدون حِقدهم وكرههم للإسلام جملة وتفصيلاً. وإلا فأيُّ عاقل يتصور أنَّ القرآن الكريم مسؤول عن صناعة الإرهاب وإنتاج الإرهابيين؟!

القرآن الكريم كلام الله، وأي اتهام للقرآن بصناعة الإرهاب، هو اتهام للحق سبحانه بأنَّه مسؤول عن الإرهاب، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. الله هو السلام ومنه السلام فكيف يكون كما يقول المفترون؟!

أنزل الله القرآن الكريم شفاءً ورحمةً: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (الإسراء: 82)، فالشفاءُ طهرٌ وخيرٌ، والرحمةُ مطلبُ كل إنسان، ولكن الظالمين يَرونَ غير ذلك، فلا يزيدهم إلا خَساراً.
 

القرآن الكريم دستور هذا المجتمع هو الذي رباهم على الإيمان بالاختلاف والتباين، وزرع فيهم المحبة والمودة واحترام الآخر.

القرآن الكريم نورٌ يشرحُ الصدور، ويُنيرُ الطريق: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(إبراهيم:1). والإرهابُ ظلامٌ، فكيف يَتقوَّلُ المُرجِفون أنَّ تعليم القرآن الكريم ظُلمةٌ ورجعيةٌ؟! وهم -والله- الظلاميون الجاحدون ولكنهم لا يعقلون.

عن أي إرهاب يتحدثون، والقرآن الكريم هو الذي قَلَبَ حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه من فَظٍ غليظ القلب، إلى حَملٍ وَديع، عندما قرأ آياتٍ من سورة طه، بعد أن بَطشَ بأخته فاطمة لإسلامها، وبعد خلافتهِ أمرضتهُ آياتٌ سِمعها ليلاً، فمرِض شهراً يَعودُه الناس لا يَدرون ما مرضه.

أي قرآنٍ إرهابي يزعمون، وقد سمعه الجِنُّ فقالوا: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) (الجن:1-2). الجِنُّ استمعوه وخضعوا له واستكانت إليه أرواحهم، ولكنَّ كثيراً من البشر أكثر شيطنة وظلاماً من مَرَدةِ الجِنّ، تنكبوا طريق الرشاد!

أي قرآنٍ إرهابي يَخرصون، وزعماء قريش (أبو سفيان بن حرب، وأبو جهل، والأخنس بن شريق) كانوا يتسللون فُرادى ليلاً لسماعه من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء صلاته، ليلة وليلتين وثلاثاً، كل ليلة يتلاومون، وتعاهدوا بعد الثالثة أن لا يعودوا.

أي قرآنٍ إرهابي يَمترون، والوليد بن المغيرة القرشي الكافر كان أعقل وأحكم وأكثر إنصافاً منهم، إذ أرسله قومه يفاوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسمعه شيئاً من القرآن، فعاد إليهم يقول: "والله إنَّ لقوله الذي يقول حلاوةً، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّه لمثمرٌ أعلاه، مُغدق أسفله، وإنَّه ليعلو وما يُعلى، وإنَّه ليَحطِمُ ما تحته." لقد عَقِلَ الرجل الكافر، وأدرك عاقبة أمره، ولولا خوفه من تثريب قومه لأسلم. ويا ليت قومنا يتعظون بمصير الوليد، قبل أن يَحيق بهم عذاب عظيم.

تحت ظلال القرآن الكريم الوارفة نشأ أعلام عِظام مثل: زين العابدين بن علي وعمر بن عبدالعزيز والشافعي وأبو حنيفة ومالك وابن حنبل وجعفر الصادق والفضيل بن عياض وعبدالله بن المبارك ورابعة العدوية والغزالي ومحمد الفاتح وألب أرسلان.
 

ونشأ ابن سينا وابن رشد وابن خلدون والفارابي والمتنبي وجرير والفرزدق وأبو تمام وهارون الرشيد والمأمون والمعتصم والجاحظ والأصمعي والأصفهاني. ونشأ أيضاً عمر بن أبي ربيعة وأبو نواس وبشار بن برد وأبو علاء المعري وديك الجن الحمصي وعمر الخيام.
 

كلهم يحفظ القرآن الكريم كُلّه أو جُلّه، يعيشون في مجتمع واحد، احتضنهم بين جناحيه، تسامح مع اختلافهم، وبسط عليهم حمايته. يلتقون يتناصحون، وربما يتلاومون، ولكنهم أبداً لم يَسِّلوا السَّيف حَكّما بينهم، ولم يُخَوِّنوا أحداً منهم، ولم يُخْرِجوه من الملَّة. لأنَّ القرآن الكريم دستور هذا المجتمع هو الذي رباهم على الإيمان بالاختلاف والتباين، وزرع فيهم المحبة والمودة واحترام الآخر.
 

نعم، في المقابل ظهر ابن الأزرق وشبيب وأبو حمزة الخوارج وصحبهم، وحمدان قرمط وقرامطته، والحسن الصباح وحشاشوه وغيرهم، ولكن هؤلاء كانوا مَلفُوظين من الأمَّة، مُحَاربين منها، يُجمعُ ثُقات الأمَّة أنَّهم لا يمثلون الإسلام، خَارجون عن سماحته ووسطيته وفهمه السليم، ولم يتردد بعض العلماء من تكفيرهم وإخراجهم من الإسلام؛ رفضاً للتشدد والتعصب والتقوقع والإقصاء والإرهاب.

نعم، هؤلاء نشأوا من رحم الأمَّة الإسلامية، واتخذوا آيات الله لهم دليلاً ومرتكزاً، ولكنَّ القرآن الكريم حُجَّةً على هؤلاء، ولم يكن البشر يوماً حُجَّة عليه. وفي عموم المسلمين تأكيدٌ على شذوذ هؤلاء وخروجهم عن إجماع الأمة.
 

إنَّ المجتمع الإسلامي تحت ظلال القرآن الكريم، وخاصة في العصر العباسي وفي الأندلس ضرب أروع الأمثلة في التنوع والاختلاف والتباين والانفتاح، مما يثير العجب ويدعو للاستغراب وربما الذهول، ولكن رغم ذلك لم يرفع أحدٌ سيفه على أحد، ولم يُكَفِّرَ أو يُخَوِّنَ أحد أحداً، وعاش الجميع متآلفين متعاونين مُتسامحين مُعتزين بإسلامهم، لا يرتضون بكتاب الله بديلاً.

إنَّ القرآن الكريم، ليس مسؤولاً عن خلل في فهم البعض له، وتأويله حسب أهوائهم ورغباتهم وشهواتهم، فالله أنزله رحمةً لا عذاباً، وشفاءً لا سقماً، ونوراً لا ظلمة، وهدى لا ضلالاً، وسلاماً لا حرباً، وموعظةُ لا مشتمةً، وروحاً لا شبحاً. القرآن يَعلو ولا يُعلى عليه، حُجَّةً على الناس، ولا حُجَّةَ عليه، من التزم به اعتز، ومن تنكبه ذلَّ، من اتخذه سبيلاً وصل، ومن اتخذه ظهرياً ضلَّ.
 

لا خوف على كتاب الله، وما يكيلون له من اتهامات وأباطيل، ولن يبلغوا آمالهم، مهما جمعوا وحاكوا وخططوا وبيتوا بليل، فالله حافظ كتابه.

إنَّ من يتهم القرآن بالإرهاب، وأنَّه مُحفز على الإرهاب، إنَّما هو إرهابي مَريد، فإمَّا أن يكون القرآن إرهابياً أو مَنْ يتهمه، وحاشا للقرآن الكريم أن يكون، فكلام الحق لا يكون إلا حقاً، وكلام السلام لا يكون إلا برداً وسلاماً، وكلام الرحمن الرحيم لا يكون إلا رحمةً وشفاءً، وكلام نور السماوات والأرض لا يكون إلا مُبدداً للظلمات، وكلام الودود لا يزيد المؤمنين إلا حُباً، وكلام اللطيف لا يكون إلا رِقة وأُنساً، وكلام الحليم لا يكون إلا عَطفاً وشفقةً.
 

وكلام الحكيم لا يكون إلا حِكَماً وتسديداً، وكلام الحي لا يكون إلا حياة ونعيماً، وكلام البر لا يكون إلا صِلةً ووصلاً، وكلام الغني لا يكون إلا نعمةً وثراءً، وكلام الصَّبور لا يكون إلا تعزيةً وتثبيتاً، وكلام الرشيد لا يكون إلا صواباً وحقاً، وكلام البديع لا يكون إلا جمالاً وعذوبة، وكلام الهادي لا يكون إلا تيسيراً وسعادةً، وكلام النافع لا يكون إلا خيراً وفيراً، وكلام الرؤوف لا يكون إلا رأفةً وحناناً، وكلام العفو لا يكون إلا أماناً وغفراناً.

فعن أي إرهاب يتحدثون، وبأي حديث يَخرصون، ومن أي بئر ضلال يَمتَحون، وعن أي عقلية مُتخلفة سوداء يَصدرون؟! (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) (الإسراء:107-109).

لا خوف على كتاب الله، وما يكيلون له من اتهامات وأباطيل، ولن يبلغوا آمالهم، مهما جمعوا وحاكوا وخططوا وبيتوا بليل، فالله حافظ كتابه، متم نوره، ناصر عباده، مخزٍ أعداءه، مذلهم ومشتت شملهم.
 

لا تغرنكم قوتهم الكاسرة، وجموعهم الظاهرة، فهم يُحاربون الله، ومن يحارب الله فهو مهزوم لا محالة، فأين مَكرُ العبيد من مَكر رب العالمين؟! إنْ هم إلا أفاعٍ أَذِنَ الله أن تخرج من جحورها ليفضحها على رؤوس الأشهاد (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة:32).

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان