شعار قسم مدونات

رحلتي إلى دولة الجبل (1)

blogs - kurdistan
تلك هي الجبال، لا تبرح مكانها.. لا تتزحزح.. لا تهجر.. لا تَرحَل. . لا تلجأ إلى غیر وطنها.. لا تُرَحَّل.. لا يمكن قلعها من جذورها، بل لا تُسرَق..

تلك هي الجبال، لا تُغَيِّرُ من جغرافيتها.. لكن مناخها لا يستقر، فشتائها ثلوج يخفي المروج، وربيعها عواصف.. صيفها ربيعٌ يُزهر بالورود، وخريفها شتاء يغزو بالبرود..

كلما مشيت على سفوح كوردستان تبهرك قممها، تجذبك روعتها، تسعدك خضارها وهواؤها، هي المرسومة بأمر الرحمن، والمزركشة بعظمته.

تلك هي الجبال، الصديق الذي لم يخن قط؛ الذي لم يَغدُر بالكوردي.. هي كانت رفيقة الدرب في وجه الظلم والجور.. هي كانت موطن التمركز لكل ثورة كردية.. هي كانت ملجأ الهاربين، ومأوى المظلومين، ونقطة القيادة لكل انتفاضة..

بين المربع الإيراني التركي العراقي السوري، أينما يمتد نظرك فثمة كوردستان قابعة متربعة صامدة، لا الزمن استطاع اقتلاع جذورها، ولا المكان استطاع مفارقة تضاريسها. أينما كانت كوردستان كانت هناك جبال شامخة، وأينما وجدت الجبال؛ وجدت معها كوردستان مزخرفة بأشجارها وتلالها، بوديانها وسهولها، بأبطالها وثوارها، بشيوخها وشبابها.

تلك التي لا تنتهي، فمن يريد أن يعرف كِبَرَ كوردستان،عليه أن يدرك التاريخ، عليه بجولة في جبالها التي تظهر من بعيد؛ التي لا تختفي خلف الأفق، بل يختفي الأفق خلفها، تعانق السحاب، وترسم لوحة عجز عن زخرفتها الكُتاب.

تُجذبك، كأنك ستصل إليها بعد بضع من أجزاء الساعة، تنتهي الأجزاء، وتمر الساعة وما بعدها من ساعة، ويستمر السعي لبلوغ أرض كوردستان.

كلما مشيت على سفوح كوردستان تبهرك قممها، تجذبك روعتها، تسعدك خضارها وهواؤها، هي المرسومة بأمر الرحمن، والمزركشة بعظمته، هي لوحة الطبيعة التي عجز عن رسمها الفنانون، وتقاعس عن نحتها الماهرون، هي أنهار الخير التي تنبع دون انقطاع، هي الوديان التي تنبض بالحياة، هي الصخور التي اقتبست قساوتها من إصرار أبطالها.

كلما تصعد تلة؛ تستقبلك أخرى، كلما تجتاز وادي؛ يرحب بك آخر، كلما تعبر نهراً، تتفاجأ بآخر، لا حدود لجمالها، ولا كلمات تعطيها الحق في وصفها، فالحروف تتنازل عن معناها والأحبار تتوقف عن كتاباتها عندما تتكلم عن طبيعة كوردستان.
 

السير على ترابها راحة، الأكل من خيراتها صحة، هنا شربة ماء من نهرٍ جارٍ، وهناك جلسةُ استرخاءٍ تحت ظل شجرة غرزت بجذورها في عمق التاريخ، تسترح، تهدأ، ترتاح، ثم تبدأ من جديد.

في كل شبر، وتحت كل صخر، تتوالى القصص، قممها وجبالها، وديانها وتلالها؛ شاهدة على التاريخ، فقد عاشت الأرض زمن البطولات، والتمردات، والانهزامات، والخيانات، وقصص الهجرات والمآسي، وأحياناً قصص الانتصارات، حتى قصص تقاتل الأخوة لبعضهم كُتِبَت هنا، والتي لا زالت تدق أجراس ندمها في مسامع الأبناء، ومع كل ذلك تبقى كوردستان هي نفسها لا تتغير.
 

على مد النظر؛ ترى كوردستان، من تلك القمة ترى إيران، ومن ذاك التل ترى تركيا وأنت تتأمل من العراق، تنتهي الحدود عندما تظهر كوردستان، كوردستان البركان الثائر في أوج عنفوانه، الإعصار المدمر في قمة غضبه، النهر الجاري بروحٍ هائجة، فالدم بدأ بالغليان في أجزاء كوردستان الأربعة لعدم زخرفة حروفها على خارطة العالم.
 

على جبال كوردستان تنتهي حدود الدول، وتتشتت الخرائط والبيانات، فهنا وفي قلب كوردستان لا مكان للجغرافية، لا زمان للاحتلال، بل أرض مباركة بالخير، ووطن ساعي إلى المجد.

تلك التي قيل فيها بشأن الكورد لا أصدقاء غير الجبال..هي الملجأ عند كل ثورة، عند كل تمرد.. علو قممها قائم دائماً.. عمق وديانها لا ينتهي، تستمر حتى تكاد تثقب على الجانب الآخر من الأرض.. المياه تجري وتجري معها الحياة‌، لا تتوقف.. الصخور تتفجر عيون ماء سلال، تسيل كالأنهار على أطراف الجبال، تحدث خرخرة تجد صداها عبر الوديان.. الكهوف تتوسع داخل أطراف الجبال.. الأشجار خضراء في الفصول الأربع.. يكثر فيها ما يطيب من حيوان يركض، وآخر يطير، وآخر يسبح، تصطاده..
 

هنا أرض شعبٍ لم يقنعُهُ العالمُ بعدُ أن له كيان، ولماذا ليس له كيان؟ ولم يقنعه بعد أن له دولة؟ ولماذا ليس له دولة؟

هنا أرض شعب لا يزال يحلم بالمستحيل في زمن أصبح فيه الحلم عبودية.. صاحب الحلم غير المؤهل للتحقيق، ومالك أرض لم تذق الحرية.. هل هو ظلم مورس بحقه، أم هو واقع استحقه، أم أن الأقدار كُتِبَت والأوراق طُوِيت ؟! لم يستقر الرأي بعد..
 

فبعد توزيع الأوراق بعد اتفاقية سايكس بيكو، لم تفلح ورقة كوردستان، تبرر الأمر بعدم أهلية الأبناء من مسؤولين ورؤساء، هل لعدم تأثيرهم على الرأي الدولي والإقليمي، أم بالفعل لعدم أهليتهم، أم أن المؤامرات عادت برسم خطوطها من جديد، في زمن باتت الألوان واضحة على أنظار للجميع.

قيل بأن منهم من فضل أن يصاحب الأقرب (العراق)، وقيل أيضاً بأن منهم من فضل أن يساوم الأبعد (تركيا) تنوعت وتقاربت الآراء والأفكار، وتباعدت أجزاء كوردستان مع خياراتهم.
 

أصبحت كوردستان أكبر قلب للشرق الأوسط الذي تنظر إليه القوى العالمية بعين الفضول، للتدخل.

الحال هو الحال حتى هذه اللحظة، إلا أن كل ذلك زعزع في نفوس الأجيال مسألة الدولة، وأعاد التاريخ نظريات الثورات إلى المواجهة، لماذا لكل شعب دولة إلا نحن؟ لماذا لكل أمة خريطة إلا نحن؟ لماذا لكل عرق سيادة إلا نحن؟ رياح القومية حركت في أعماقهم العشق الكوردي الحر لدولتهم، التي كانت حلماً يرن أجراسه في نفوسهم ساعياً إلى إشعال نبراس السعي في عرقهم لبلوغ حلم الوطن الذي غاب عن ناظرهم.

نصف مليون كيلومتر مربع غني بالموارد المائية والزراعية والمعدنية والنفطية، كانت هدفاً لحروب كثيرة، ومؤهلة كي تكون هدفاً لمعارك المستقبل المرتقبة كمعركة السيطرة على منابع المياه! فهنا ينبع دجلة والفرات، وهنا ينبع العشرات مثلهما..

جسر الوصل بين أخطر ثلاث مناطق وأوعرها (العربية من الجنوب والجنوب الغربي، والفارسية من الشرق والجنوب الشرقي، والتركية من الشمال الغربي) هذه المناطق الثلاث؛ كانت كوردستان قاسمها المشترك، وأكثر مناطق الاحتكاك إن لم يكن الصراع.
 

أصبحت كوردستان أكبر قلب للشرق الأوسط الذي تنظر إليه القوى العالمية بعين الفضول، للتدخل.
 

وطنٌ يبلغ تعداده 40 مليون نسمة، هو ذاته هدف للآخر المجاور أو حتى البعيد، هو عنصر بناء ودفاع لو أحسن التعامل معه، وعنصر هدم مؤثر لو أُسيء التعامل، قراءة تاريخ الدول الحاوية للكورد، تعرضه عاملاً فعالاً في صنع تاريخها!

الكوردي لا يفارقه الشعور بأنه ظُلم من أنظمة دوله، يتطلع إلى التخلص من هذا الظلم بأية طريقة كانت، يطمح في أن يكون له نظامه الخاص في دولته المستقلة،حتى ولو حلماً! يظن بذلك النظام وتلك الدولة نهاية عصر مظلوميته!

كوردستان غنية بحركات طالبت بالحرية.. في العراق بدأت بشيخ محمود الحفيد وأدام بها ملا مصطفى البارزاني وتشعبت منها تيارات سياسية بين اليسار واليمين، فكان جلال الطالباني، ومسعود البارزاني وغيرهم..

في إيران من سمكو شكاك إلى قاضي محمد المعلن عن جمهورية كوردستان الشعبية في مهاباد، ثم تيارات عدة طُردت إلى خارج البلاد، من عبدالرحمن قاسملو وغيره..

في سوريا لم يكن ثمة عمل مسلح كردي، لكن لم ينقطع عنه العمل السياسي..

تركيا "بيت القصيد" في رحلتنا إلى دولة الجبل.. فيها بدأت بالشيخ سعيد بيران ضد أتاتورك، ثم بعدها أسكت أتاتورك الشعب الكردي حتى ثمانينيات تركيا، لتتفاجأ بحزب العمال الكردستاني، وعبد الله أوجلان..

من هنا تبدأ قصتنا.. تبدأ رحلتنا إلى هناك حيث الجبال، المثلث بين العراق وإيران وتركيا، المنطقة التي لم تهدأ أبداً..

إلى هناك حيث يمكن للمطارد أن يصله، يعيش فيها الحياة ولا يمكن لمن يطارده من جيش أو طائرة أو دبابة الوصول إليه.. إلى حيث يمكن لمن يحمل البندقية، والشجاعة، والفكرة، والتفاني، وقطعة خبز، أن يقضي ما تبقى من حياته هناك، بعد أن هرب.. إلى حيث من يمكن أن يعيش حراً بما يحمل من فكر وقضية.. هكذا كان قديماً ولا يزال.. هو عهدة الجبال بأصحابها..
 

حزب العمال الكردستاني منتصف 2003 ظن فيه معارضوه بأنه ضعف، بل وصل لأضعف مراحله، هكذا ظنوا فيه.. فها هي الولايات المتحدة تعتبر الحزبَ إرهابياً، قد دخل العراق بهيله وهيلمانه واحتله..
 

الحزبان الكرديان العراقيان الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني من أعداء العمال الكردستاني حيث كانا في حرب معها قبل سنوات، هما الآن حليفا الولايات المتحدة الأمريكية..
زعيمه عبدالله أوجلان في السجن بتركيا منذ 1999 ونحن في 2003؛ شخصيات انشقت من الحزب.. تشكيلات جديدة تشكلت بعد خروجها من الحزب.. الحزب أعلن من طرف واحد وقف القتال مع تركيا..
 

عثمان أوجلان حل كقائد محل شقيقه المعتقل عبد الله، وهو يقبع هناك في قمم جبال مارادو..
نحن ذاهبون إليه..

– مام، أين الطريق إلى مارادو..
– من هنا.. (أشار إلى اليسار)
– شكراً..
– ماذا تريدون من مارادو؟
– نريد الذهاب إليها..
– مستحيل..
– لماذا؟
– هذه السيارة لا تصلكم إليها، الطريق حجري ترابي جبلي..
– ما الحل إذن..
– تتركون سيارتكم هنا، تؤجرون سيارة لاندكروزر من أهالي القرية، سيارات القرية متعودة على هذا الطريق..

رفض السائق الذي جلب فريق الجزيرة من بغداد، ترك سيارته:

– سأتوكل على الله..

خفض من صوته، جذبني إليه، همس في أُذني:
– إنها مناطق الـPKK..
– نحن نريدهم..!
– لماذا؟
ستلتحقون بهم؟
– هل هناك أجانب من غير الكورد يلتحقون بهم؟
– نعم..
– نحن لا نلتحق بهم، لكننا نريد أن نلتقي بهم..

سلكنا الطريق، اقتربنا من آخر نقطة تفتيش لمسلحي الاتحاد الوطني الكردستاني..

– تكتفي بالسلام على نقطة التفتيش دون أن تتوقف، تستمر في سيرك.. ألا يوقفوننا..؟
– إذا أبدينا من أنفسنا غرباء، سيوقفوننا.. سلم فقط، واعبر مباشرة..
– كما تريد..!
 

لم نتوقف، طاردتنا نظراتهم، نحن مستمرون في الطريق.. ينتهي الطريق المبلط، يبدأ طريق ترابي، تشعب الطريق، لم نعرف أي شعبة تتجه لمارادو، لحسن الحظ جاءنا رجل من مارادو نفسه، أراد أن يركب معنا إلى هناك..

– لستم من أهل المنطقة..
– أنا كردي من دهوك، هذا فلسطيني، ذاك من جنوب أفريقيا، السائق بغدادي..

التفت إلينا الرجل مستغرباً، كأنه أراد تركنا نازلاً، لكنه تراجع، بعد برهة من الصمت بادر قائلاً:

– أين يريد هؤلاء..
– مارادو..
– وماذا في مارادو؟ قرية مهجورة، يتوجه إليها أمثالي من أهل القرية، تركناها منذ زمن، لولا مزارعي لما توجهت إلى هناك، ماذا ستفعل؟ أنت لست من أهل المنطقة، وهؤلاء أجانب..
– نحن صحفيون عملنا جولة في كل كوردستان، نريد الذهاب إلى هناك أيضاً..
– منطقة محرمة..

خفض من صوته، جذبني إليه، همس في أُذني:

– إنها مناطق الـ (PKK)..
– نحن نريدهم..
-لماذا..؟ ستلتحقون بهم؟
– هل هناك أجانب من غير الكورد يلتحقون بهم؟
– نعم..
– نحن لا نلتحق بهم، لكننا نريد أن نلتقي بهم..

فجأة توقف السائق، وضع صدره على "مقود" سيارته، رفع رأسه متمعنا في الطريق.. الطريق يتسلق في الجبل الشاهق، كأنه طريق مشاة لا طريق سيارات، على اليمين واد سحيق يجري فيه نهر، يخترق القاع، يأكل منه كالمجنون الهائج، هو الذي يزيد الوادي عمقاً.. نظرت من النافذة، مسافة الارتفاع بيننا وبين النهر أصابتني بالدوار، لا أرى غير العلو عن النهر..
 

القصة مستمرة…

undefined 

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

إعلان

إعلان