شعار قسم مدونات

حوار في فلكِ الجمال الأدبيّ

blogs - read
جوْلتي من عامٍ مضى مع كتاب حديث القمر..
تُعتبر القراءة نافذةً لمحبِّي التحليق في سماء الإبداع، هي حياةٌ ونبضٌ للفكر، ومن بيْن الكتب الثرية بما تحمله من حكم نابعة من تجارب الحياة، كان لي وقفة لا تُنسى مع كتاب حديث القمر في طبعته الثامنة عن دار الكتاب العربي، للكاتب مصطفى صادق الرافعي رحمه الله.

قرأت الكتاب وفي كلِّ زاوية منه عبرة لذا حاولت وضع النقاط المهمة في كل فصل بشرح موجز لها حسب فهمي ونقلت بعض الأقوال كما هي حتى لا تفقد جماليتها وصدقها وكما قال الكاتب: "حسبي أن يكون عند الحقيقة ذُخرها وعند الجمال شكرُها وعند الله أجرها".
 

بالمحبة نحيا وبها يكبر العطاء وتغمرنا السعادة، والقصد هنا ليس للطبيعة بكلّ معناها وإنما الطبيعة البشرية.

ما أجملها من دمعة بلّلت الأجفان في سمرٍ طويلٍ مع القمر، نعم فقد أحببت ذرف العَبرات أكثر كقارئة لهذه الكلمات حتى أتأكد من أن دموعي بهذه الرقة، حتى أتعرف على دموعي أكثر هل هي من باطن روحي الجميلة أم من لا شعورٍ بكلِّ ما يحوم حوْلي من جميل، وحتى من قبيح وكما وصفها الكاتب: "و ما دمعتي إلا النهر الذي نَبَتُّ في شاطئه، وهي أطهر شيء وأصفاه لأنها مخلوقة من ثلاثة عناصر تقابل العناصر السماوية من الحب الذي يقابل عنصر النار، ومن اللين الذي يقابل عنصر الهواء، ومن البكاء الذي يقابل عنصر الماء".

أقول لكل قارئ ماذا أسر فكرك في مُجمل الكتب التي قرأتها، يا ليْتك ترفع صوْت كلماتك وانتقادك البنَّاء حتى تسمعها أنت ويسمعها غيرك، كما رفع الكاتب صوت روحه عندما باح بدموعه للقمر.

ليْس كلّ ما يعجبك يُرضيك ولكن كلّ ما يرضيك يعجبك، هنا غاص بنا الكاتب فيما أسماه لُغة الطبيعة، أنَّ الطبيعة تصف الحب "بالحياة المعذبة"، لا أعلم منطلقات الكاتب لهذا الوصف لكن بالمحبة نحيا وبها يكبر العطاء وتغمرنا السعادة، والقصد هنا ليس للطبيعة بكلّ معناها وإنما الطبيعة البشرية ونظرة الإنسان لما حوْله، خاصةً كلّ ما هو جميل فكلّ ما يُرضي الإنسان نابع من روحه و ذاك هو انعكاسه الحقيقي.

ربط مميز بين طبيعة البشر ومدى توافقها وسير هذا الزمن، إذ أنَّ هناك من يعيش بعشوائية لا يُعطي ثمناً للوقت الذي يُمضي "رجل يبيع يومه دون أن يُساوم عليه"، لا بصمة له بذاكرة الزمن "بيت اليقظة والأحلام" نعم هو ضمير الطبيعة راقني هذا المصطلح كثيراً، إذ أخذنا الكاتب في رحلة من المصطلحات المتداولة بيننا بكثرة لكن هل لنّا وعيٌ بمعناها ووقعها.

هنا فقط نقصد الإنسان أو كما تفضل الكاتب "علم الإنسان" نفسه روحانيته و واقعه، فهل يُخالج يقظة الإنسان نوع من الحلم؟ ذاك الحلم الذي يعكس مجموع الأفكار والآمال.. أشتات الحياة.. الزمن و الوقت.. الساعة كما وصفها الكاتب "السم البطيء الذي ينفثه ذنب عقربها"، وحرية النفس البشرية والتي تعكس فكر الروح أو النظرة القوية العاقلة لمعنى العبودية ألا وهي جمال العبودية لله.

تبسيط راقي من الكاتب للغة السعادة بعيداً عن ظنون الفلاسفة، هي طفولة القلب "تلك اللُّغة الخاصة بالأطفال والتي يضحك منها الرجال أحياناً إذا استمعوا لها لأن في أنفسهم بقية من أثرها"، وعكس السعادة البؤس لكن هنا تكمن المفارقة، هل السعادة في غنى المال؟ لا.. قيمتها بالقرب من الله، لذا "فالسعادة هي عناية الله" الغنى غنى النفس وأما المال فهو مجرد أرقام في هذه الدنيا.

خاطب الكاتب الشاعر ومسؤولية الشاعر في نقل رسالته إذ يجب أن تكون له رسالة مُغلّفة بالأخلاق مثل النحل يقع على الزهر ليجني العسل، وليْس كالذباب يقع على الزهرة ويطير منها كما وقع دون بصمة تُذكر.

لنا في القراءة متنفسْ يُخرجنا من الروتين ويُضفي على جلساتنا روْنقاً خاصاً، الحقيقة مع نهاية كلِّ كتاب نكتسب خبرة و تكبر مساحاتُ إدراكنا، وتتلاشى الفجوة بيننا وبيْن ذاتنا.

وصف جميل متناغم لحياة القلب فمهما كان الإنسان مُتعلماً كما وصفه الكاتب رأسه مكتبة من العلوم لا يُساوي ذلك شيئاً أمام قلبه الجاهل، و بهذا الطرح تكمن حقيقة الصراع بين القلب والعقل فالعقل موْضع البحث الدائم عن البراهين وحل المُعضلات وهناك حقائق يتوّصل لها العقل تكون موقع رفض من القلب والذي يُسمى من البعض "صوت الضمير"، فهو موْضع الحب والإنسانية والإيمان.

وبعد هذه الجولة مع مجموع المصطلحات قادنا إلى معنى الجمال الذي تعرفه العيْن بأوصافها كالمرآة التي تُقابلك بالشيء كما هو لتفهمه أنت كما تُريد، وهنا يكمن دور القلب في تفّحُصِ معانيها، ثم يحين دور اللسان ليلفظ لغة الجمال وعلى العكس من ذلك وكما وصف الكاتب "وعلى مقدار ما في الإنسان من الفكر القبيح يكون مقدار قبح الطبيعة الجميلة في عينيه"، ومن أسمى معاني الجمال الإنساني أن تعرف حق ما تملك وتمنحه من جميل ما تُحب لنفسك حتى تحافظ عليْه فهكذا تستمر الحياة.

وأخيراً طرح الكاتب معنى الصداقة والعداوة، ومعنى الحب والسمو بالنفس، ففي هذا الزمن الذي نعيشه صديق يضحك بوجهك ويطعنك بظهرك كأنه عدو يملؤه الطمع، فالإخلاص في الصداقة لا يشعر بقيمته إلا أسعد الناس، هذه المعاني التي في مجملها معاني الكمال الإنساني هي معاني لخصها الكاتب في ثلاثية: المبدأ الشريف للنفس، والفكر السامي للعقل، والحب الطاهر للقلب، فالحب والحياة شبيهان في الطفولة والهرم بمعنى أن الحب لا عمر له.

لنا في القراءة متنفسْ يُخرجنا من الروتين ويُضفي على جلساتنا روْنقاً خاصاً، الحقيقة مع نهاية كلِّ كتاب نكتسب خبرة و تكبر مساحاتُ إدراكنا، وتتلاشى الفجوة بيننا وبيْن ذاتنا التي عادةً ما تسبح في فلكٍ مجهول الانتماءْ، تتطاير بيْن هوِّياتٍ متناثرة مُتناسيةً فضاء المعرفة اللامُتناهي، وكأنّ القراءة تنتشلنا من وحل اللامبالاة وتفتح نافدة الفُضول على مِصرعيْها.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان