شعار قسم مدونات

الحياة في الغابات

blogs-غابة

في منتصف القرن التاسع عشر كتب الأديب الأمريكي هنري ديفيد ثورو كتابا بعنوان "ولدن أو الحياة في الغابات" يحكي في الكتاب بعضا من حياته التي قضاها في قرية ولدن حيث بنى كوخا واختلى بالغابة يعانق الطبيعة ويقتات على جمالها، يسير نحو النهر حيث يصطاد الأسماك ويتوغل في الغابة حيث يترصد الفرائس وفي الليل يتعبد وحيدا تحت السماء المتقدة بالنجوم.

يقول ثورو: "ﺫﻫﺒﺖ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻐﺎﺑﺎﺕ ﺑﻜﻞ ﻭﻋﻲ ﻭﺑﻜﻞ ﺣﺮﻳﺔ، ﻟﻤﻮﺍﺟﻬﺔ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎﺓ ﻟﻌﻠﻲ ﺃﺗﻌﻠﻢ ﻣﺎ ﻟﻠﺤﻴﺎﺓ ﺃﻥ ﺗُﻌَﻠِّﻢ، ﺣﺘﻰ ﻻ أﻛﺘﺸﻒ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻤﻮﺕ ﺃﻧﻲ ﻟﻢ ﺃﻋﺶ ﻗﻂ"

الإنسان في نموذج المدينة غارق في مستنقع المادة ويكاد لا يستطيع الخروج منها ذلك أنه لا يرى إلا المادة فهي ستلبي له كل المتطلبات الخارجية

فعند ثورو من لم يعش في الغابات ولم يكتشف الطبيعة في أعماقها فإن حياته تبقا عديمة المعنى وكأن شيئا يحجب عنه تلك الرؤية الجمالية لبراءة الطبيعة، أو كأن تلك الجدران الإسمنتية الباذخة والدخان الخانق المنبعث من الآليات والمصانع يشكل حاجزا ضبابيا يحيل دون رؤية الحياة إذ يلونها بلون واحد وهو لون الآلة والإسمنت الرمادي فتقصر عينه فلا تبصر إلا لونا واحدا أو بالأحرى لا تبصر إلا بنصف عين واحدة فيتحول الإنسان إلى جزء إنسان لأنه لم يكتشف الألوان في طبيعتها وفي حياتها.

ففي الغابة تشرق الألوان في توهجها الطبيعي قبل أن يفسد بريقها بطش الإنسان.

فثورو بحدسه الشاعري نفر من المدينة بحثا عن عالم يجد فيه شيئا من ذلك المعنى أو الحياة التي فقدها وسط ضجيج المدينة التي يتخاطف فيها الرأسماليون على السلع فيكادون يقيسون الإنسان على مقاسها، فرغم كل تلك الثقافة التي تعج بها المدينة بين جدرانها المقيدة ف "إننا نجهل موقعنا.. ومع ذلك نعتبر أنفسنا حكماء" كل رواد الثقافة هناك لن يدركوا الحياة إذا لم يكتشفوها في الغابات ولن يبلغوا الحرية ما لم يسيروا فيها.

فالحياة في الغابة منبع الحرية، ولكن أي دافع هذا الذي يجعل ثورو يفر للغابة ويمقت رفاهية المدينة؟ فلو تأملنا الوضع سنجد أن كاتبنا يمثل نموذج الإنسان الغربي الذي أتخمته المادة وراح يبحث عن شيء يغذي به حياته التي تنذره بفراغ قاتل، فالإنسان لا يفر من المدينة كارها إياها وإنما يفر منها مكروها لأن طبيعة العيش فيها لا تصلح للإنسان فالنموذج الذي تقدمه الحضارة الغربية متمثلا في مدينتها هو نموذج معاق لو تقمصه الإنسان أدرك أنه لا يلائمه ولا يلبي حاجياته النفسية.

فالإنسان في نموذج هذه المدينة غارق في مستنقع المادة ويكاد لا يستطيع الخروج منها ذلك أنه لا يرى إلا المادة فهي ستلبي له كل المتطلبات الخارجية وستجعله يحقق فائضا في الرفاهية التي تشغل عمره القصير مما يجعله غير مدرك لجزئه الآخر الذي يمثل الجانب المهم من الإنسان، فتأثير الرفاهية المادية على عقله يجعلها مطلبه الوحيد فيتحول هذا الإنسان إلى شبه إنسان أو إلى جزء إنسان حقيقي فهو ينظر إلى نفسه وإلى الطبيعة بنصف عين فلم يستكمل بذلك إنسانيته في نفسه ثم لم يستكمل نظرته إلى الطبيعة حيث يبقى مسجونا بين جدران المدينة التي تسد عليه أفق الكون الرحب.

فإنسان هذه المدينة هو إنسان غارق في هذا المستنقع الخانق محاولاته في النجاة تضعف يوما بعد يوم، يحس بالخنق يباغته لكنه لا يعرف طريق الخروج ولا يعرف عالما غير هذا الذي يشاهده بعينه، في كل مرة ينذره حس فطري داخلي بالفراغ لكنه لا يفهم معنى هذا الأمر فهو إذن ضعف صحي تهدئه أقراص طبية أو جلسات نفسية وسيعود التوازن ريثما ينتهي مخدر الأقراص، ألن ينتهي مخدر هذه المادة الذي أعمى عينيه وجعله لا ينظر الا بجزء منها؟.

الشخص في الغابة ستكون عنده إمكانية اكتمال أجزائه والرجوع إلى الإنسان الحقيقي الذي كأنه قبل أن تبتر بعض أجزائه بفعل المشكِّلات المدنية

فمحاولات البعد عن المدينة أصبحت حاليا تزداد شيئا فشيئا في الدول الغربية ربما لأنها حاولت تلبية نداء ثورو إذ سُمع نداؤها بشكل قوي في الولايات المتحدة حيث كثرت هناك مبادرات جماعية للخروج إلى الغابات والابتعاد عن كل ما هو آلي وإسمنتي وأضحت هذه الخرجات التي تستمر لأسابيع وشهور تسمى ب "الفصل عن الشبكة" أي الابتعاد عن شبكات الإنترنت وعن كل ما هو آلي تكنولوجي ونزع أسلاكها عن عقل الإنسان حيث أصبح إنسانا آليا لا يتحرك إلا بالضغط على أزرار.

وهناك بعيدا عن الأسلاك في الغابة وسط الطبيعة سيكتشف الإنسان عالما جديدا يجعله يتعرف على كثير من أجزاء ذاته التي لم يدركها في حياته القصيرة، مما سيجعله يطرح أسئلة أخرى غير تلك التي كان يطرحها لما كان أسير الجدران تشكِّل كل أذواقه إعلانات المجلات ووسائل الإعلام ولا تتجاوز أسئلته قضايا تتعلق بما يشاهده في تلك الشاشات أو يقرأه في الجرائد والمجلات.

فالشخص هناك في الغابة ستكون عنده إمكانية اكتمال أجزائه والرجوع إلى الإنسان الحقيقي الذي كأنه قبل أن تبتر بعض أجزائه بفعل المشكِّلات المدنية مما سيجعله يطرح أسئلة جديدة تتلاءم مع إنسانيته وربما تجعله يكتشف نظرته الغارقة في مستنقع المادة ويدرك أن هذه المراحل التي قطعها كانت كلها تمرره إلى نقطة جديدة في المستنقع الذي كان أسيره طوال حياته، فهل سيتساءل هذا الإنسان عما بعد المادة وينقذ نفسه من هذه العبودية ويعود إلى حريته التي فطر عليها؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.