شعار قسم مدونات

كل الطرب في سخرية العرب

blogs - people
لا أدعو للسوداوية أو الإحباط؛ فهكذا علمني ربي، لكنَّ الواقع يَجذِبني غالبًا، فمن نظرةٍ لا يهم إن كانت سريعة أو عميقة، يَحدُث أنك تتقمَّص دور الساخر على كذِبٍ باهر، وموقف عابر، وكثير مما يَمرُّ على الخاطر.

في الصباح الباكر، مع ذَهابنا لأعمالنا، وفي الحافلات على وجه الخصوص، ترى فتاةً جعَلت من وجهها لوحةَ رسمٍ، فيها من الألوان ما تَشتهيه الأنفس، ومن الخيال ما خطَر على بالِ بشر، ترى رأسها فتَخلِط بينها وبين سِنام الجمل، سَحْرها واضح، سِيقانها تَصلُح لإعلان الشاشات الواضحة الرؤية، حمَلت في يديها مصحفًا تقرأ سورة مريم، فتتفُل عن شمالك ثلاثًا. وتتوجَّه للجهة الأخرى، فترى شابًّا سقَط سرواله واتَّجه إلى الأرض، علِمت أنه كان وراء سبب اكتِشاف نيوتن لقانون الجاذبية، يَتمايل في جلسته تَمايُل الغنجاوات، تقرأ من شَعره مفهومَ الاستِعمار الثقافي، يحمل في يديه مِسبحةً يُنزِّه الخالق!

من المُحال أن يسأل رجل رجلاً آخر في مسألة دينية، ولا يتوهَّم دور المفتي، فيأخذ يُحرِّم ما يشاء، ويُحِل ما يشاء، فيأتي بأحكام تُخرِج السائل من دينه.

في بيوتنا آباءٌ يتأثَّرون كثيرًا مما يُعْرض في قناة الجزيرة، وما تَبثُّه من صورٍ لأشلاء ممزَّقة؛ فيَهمِس الأب بحشرجة: حسبي الله ونِعْم الوكيل، والأم تَسبَح في عينَيها العَبرات، وحالة من الوجوم التام يُهيمن على البيت، يَكسِره ذاتُ الأب بقوله: اذهبي وأحضري العشاء! في بلادنا جَهْل وظُلمات، أذكُر أنهم نَسبوا خسارة المنتخبات العربية للإخوان المسلمين.

في شوارعنا شابٌّ يداه موشَّحتان بشتى الأساور، ألفاظه تستحي الأذن منها، أخلاقه في لباسه، لباسه بلا أخلاق، كل شيءٍ عنده مُباح، أذكر أنني أُقحِمت في نقاش أحدهم، فتَزامَن أذان العصر وهو يستمِع للأغاني، فطلبتُ منه أن يحترِم الأذان، فاستجاب على مِنَّة، وقال: سأُغلِق الأغاني مع أنني قد فتحتُها وسبَقتُ الأذان، ذلك الشاب يستغرِب أيَّما استغرابٍ من عدم توفيقه في الحياة وتَخبُّطه الدائم فيها.

كما ترون يا سادة، فإن السخرية قد عشَّشت وفرَّخت، وتدلَّلت وتغنَّت، لا يمكن لأحدنا أن يَنسلِخ عنها، فمنها نرى الواقع ونُخطِّط للمستقبل؛ فهي ماؤنا، وداؤنا ودواؤنا، وبَدلٌ يُطابِق الكل من الكل. كم من العادات في مجتمعنا العربي كلما غَرِقت أو أوشَكتْ جاءها من يُنقِذها! فمن المُحال أن يسأل رجل رجلاً آخر في مسألة دينية، ولا يتوهَّم دورَ المفتي، فيأخذ حضرةُ المفتي بالتنحنُح، ويرفع حاجبَيه، ويقوِّم جِلسته، ويلفِظ نَفَسه، ويوجِم في عينه، ويأخذ يُحرِّم ما يشاء، ويُحِل ما يشاء، فيأتي بأحكام تُخرِج السائل من دينه.

أذكُر ذات يوم أنني – وبعد عراك طويل مع الملل – عزَمت على الخروج مُنتصِرًا، فهِمتُ أبحث عن مخرَج أُنفِّس فيه أزفارَ الضَّجَر، فوقع بصري بعد تَجوالي على ابن أخي البالغ من عمره تسعة أعوام، فكان شاحبَ اللون، مكدَّر البال، أغبَر الحال، فسألتُه عن سبب ذلك، فتأفَّف وتأوَّه، ثم نظر إليَّ نظرَ اليائس القانط، وقال أخيراً: "اصمُت يا عماه؛ فالمَلَل يَغمُرني، ولا يعلم بحالي إلا الله". فصُعِقت من هول ما سمِعت، ذلك الطفل أفقَدَني لذة النصر، لا أدري حينها لِمَ خطَر ببالي قول ابن كلثوم:
ألاَ لاَ يَجهلَنْ أحدٌ علينا
فنَجْهلَ فوقَ جَهْلِ الجاهِلينَا

قمة العجز في أن يُجبِرك واقِعُك على السخرية، فحين تسمع أن أحد حكَّام العروبة قد دعا إلى اجتماع طارئ؛ بسبب مذبحة أو مجزرة في قُطر عربي أو آخر، فلا تتوقَّع منه إلا السخرية الطارئة، فمنذ عقود وهم يَشجُبون ويستنكِرون ويُندِّدون، وأجرأ قراراتهم لا تتجاوَز بوقف استيراد "البيبسي" والمشروبات الغازية، ونوع معيَّن من الحليب الذي لطالما رَضَعوا منه، ماذا يعني أنكم تَشجُبون وتنددون وتستنكرون؟ فجدتي العاجزة التي أرهقها السقم تشجُب وتستنكر أيضًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.