شعار قسم مدونات

أنقذ موهبتك.. لا تستسلم

blogs - don't give up

أنا -وإن كنت لا أحب أن أبدأ تدوينَتي الأولى في مدونات الجزيرة بقولي أنا- أحدُ القلّة الذين أنقذوا مواهبهم من بين أنياب اليأس في وطنٍ يُمارس كل أنواع الجاهلية ضدّ موهوبيه، ولا أظن ذلك تميّزاً مني بقدر ما هو توفيق إلهي.

عند أول بيت شعر كتبته في حياتي وأنا ابن السادسة عشرة والذي حمل في شطريه بحرين مختلفين -لم أكن حينها أعرف شيئاً عن البحور- شعرت لثانية أنني أحمد شوقي، ولست أُلام في هذا لأنه لم يكن فيَّ قبل هذا السن أي شيء يدل على أن هذا الطفل يحمل بين جنبيه موهبة من أي نوعٍ كانت عدا موهبة كسر الكاسات والصحون لوالدتي كل ما التفتُّ في المطبخ يميناً وشمالاً وموهبة الهروب الكبير بعد كسرها.
 

لأن الموهبة منحة إلهية كان عطاؤها لا ينفد، الله يُعطيك الموهبة وعليك أنت الصقل، وصقل الموهبة هو الامتحان.

كانت الخطوة الأولى التي قمت بها بعد كتابة البيت الخنفشاري الأول اتصالي بوالدي لأتلقى الصدمة الأدبية الأولى أيضاً في مشواري الذي لم يتجاوز بيت شعر، قلت له: أبي لقد قرأت بيت شعر رائع جداً لكن لا أعرف لمن، سمع أبي البيت وأعجبه وقال لي: جميل جداً ويبدو أنه موزون، لم تترك لي فرحتي بإعجابه الواضح بالبيت فرصةً لأسأله ما معنى موزون؟، كانت ضحكتي أسرع وأنا أقول له: أنا، أنا من كتب البيت والله العظيم، ساد الصمت هُنَيهةً ثم قال لي: أعده عليّ، أعدته ليتغيّر رأي أبي مباشرةً: هذا بيت رديء وليس موزوناً أصلاً.

انتفضتّ وقلت له: أنت غيرت رأيك لمّا عرفت أن البيت لي ما هذا التحطيم يا أبي، أخذ يضحك ثم قال: انتبه لدراستك يا بنيّ، فالذين يحملون بطيختين في يد واحدة يعثرون سريعاً.
أغلقت الهاتف وكانت أمامي ورقة على طاولتي وقلم، كتبتُ على الورقة: كيف تنقذ موهبتك؟ ومضيت.

قبل أن يقع الموهوب بين فكي الحكومات يقع في أفخاخ المجتمع الذي يعتبر الموهبة خروجاً عن ملّة الجهل، الجهل الذي يسمى زوراً في عُرف المجتمع وعياً.

الأهل فالأصدقاء فالمعارف الخ..، بغض النظر من يسبق من، لا يملكون ذرةً واحدة -إلا من رحم ربي- من حسن التعامل مع الموهبة الجديدة، ولأن الموهبة منحة إلهية كان عطاؤها لا ينفد، الله يُعطيك الموهبة وعليك أنت الصقل، وصقل الموهبة هو الامتحان الذي يرسب فيه أغلب الموهوبين بكل أسف.

أعجبتني فكرة أن أكون شاعراً، وزاد تعلقي بها بعد تصرف أبي الأول، بدأ التحدي إذن، قلت له بعد تثبيطه لي في إحدى المرات: سأثبت لك يوماً أن ابنك شاعر، ضحك وهو يضع فنجان القهوة أمامه وأجابني بالعامية: بحياتك ما رح تصير شاعر. كنت مهتماً لرأي والدي جداً ليس فقط لأنه قِبلةُ قلبي، بل لأنه على ثقافة أدبية عالية جداً رافقتنا منذ صغرنا وبخاصة حين كانَ يجمعنا لنلعب معه لعبة: من القائل، فيقول لنا أبياتاً وعلينا أن نعرف قائلها لننال جائزة غالباً ما تكون مالية.

وكأيّ موهوب في بداية الطريق، كنت أستحي من الحديث عن موهبتي أمام الأصدقاء، ولمّا تجرّأت وقعت ولم يُسمّ عليّ أحد، سيلٌ عارمٌ من السخرية الذي جرف الأخضر في قلبي، من مراهقين أكبر همّهم فروجهم وبطونهم، هنا كانت الصدمة الثانية.

تحدٍّ جديد، سأثبت لكل من حولي أنني شاعر، مضت الأعوام، وليس لي معين إلا الله ثمّ أمي، الأمّ هي الكائن الوحيد الذي يؤمن بك عندما يكفر بك الجميع، كانت تراهن أبي وتقول له بإحدى صيغ المُبالغة الكثيرة عند الأمهات إذا كان الحديث عن أبنائهنّ: ابنك هذا كان يقول الشعر وهو في أحشائي!، تحدٍّ أكبر، أصبح الحلم ليس حلمي فحسب، هو حلم أمي في أن يكون ابنها شاعراً.

سبعة أعوام، كانت القراءة والدُربة شغلي الشاغل، لم يكن همي أن أطبع ديواناً، بل كنت أخاف من فكرة الطباعة، بدأت رحلة تنمية اللغة، اللغة الخاصة بي أنا وحدي، كنت أكره -وما زلت- أن يقول لي أحدهم شعرك يشبه شعر فلان من الشعراء مهما كان الشاعر المُشبه به عملاقاً شعرياً، تطوّر الأمر، أصبح أكبر من أن أُثبت لأبي ومن حولي أنني شاعر، أصبح الأمر أنني أُريد أن أُثبت لنفسي أنني شاعر، هذه النفس التي توسعت طيلة سبعة أعوام في قراءة الشعر فلم يعد يعجبها ما يكتبُ صاحبها.

بدأ الموسم الخامس من مسابقة شعرية كبيرة تُقام كل عام مرة في إحدى البلاد العربية، أرسلت قصيدتي فوراً، ليأتي اتصالهم بعد ١١ يوماً، قال لي المُتصل: أخ حذيفة قَبِلتك اللجنة من بين ٣٠٠ شاعر فقط من أصل ٧٠٠٠ شاعر، يأتون على حساب الهيئة القائمة على المسابقة، أرسل أوراقك على الإيميل التالي..، كان المتصل يتحدث بهدوء وأنا لم يبقَ شعرة في جسدي إلا وأعلنت الوقوف رهبةً ورغبة، لا أذكر كيف سجلت الإيميل وأغلقت الهاتف.
 

الاجتهاد هو الجواب، وهو النجاح، ثق أيها الموهوب أنّ الله لا يضيع أجر من تعب وسهر في أيّ مجال، وللاجتهاد قرائن لابدّ منها، أعلاها الصبر وأدناها الأمل.

قبلها بأشهر، كانت السادسة صباحاً وكنتُ أشربُ القهوة مع أمي في المطبخ ووالدي في غرفة الجلوس صرخ باسمي فذهبت إليه كان في يده "اللابتوب"، قال لي: هذا هو الشعر، لا ما تكتبهُ من هراء!، وقرأ عليّ أبياتاً نُشِرت في صفحة لها أكثر ٨٠٠ ألف متابع، ونُشِرت الأبيات بغير اسم، ضحكت وكانت فرحتي بهذا قد محت غيظي من الصفحة السارقة، وقلت له: هذه أبياتي أنا، ابتسم ابتسامةً لا أنساها، لقد آمَن أخيراً بشاعريتي، بل وفاخر.

سافرتُ إلى البلد الذي تُقام فيه المسابقة بجناحي المُتنبي وعُدتُ بخفي حنين، رفضتني اللجنة المكونة من ٣ نُقاد -من كبار نقاد الوطن العربي- بالإجماع، احتجّ اثنان منهم بأن القصيدة لا تُناسب توجهات البرنامج برغم جمالها وتحتاج إلى إعادة نظر، ثم استلّ الناقد الثالثُ سيفهُ وقال لي: دع الشعر لأهله أنت غير مُجاز بالإجماع.

عُدت مُحملاً بالخيبة ولكنني لم أستسلم، مضى على هذه المسابقة ٣ سنوات أصدرتُ فيها مجموعتي الشعرية الأولى بعنوان: قاتلكِ الحب، وبقي أيام قليلة على صدور المجموعة الشعرية الثانية بعنوان: مُضاف إليك.

ما منعني اليأس وما قيدني الإحباط، كنت مؤمناً بموهبتي وإيماننا بمواهبنا أحد أهم أسرار النجاح، سبعة أعوامٍ كلفني سؤال: كيف تُنقذ موهبتك لأعرف جوابه.

الاجتهاد هو الجواب، وهو النجاح، ثق أيها الموهوب أنّ الله لا يضيع أجر من تعب وسهر في أيّ مجال، وللاجتهاد قرائن لابدّ منها، أعلاها الصبر وأدناها الأمل.
أنقذ موهبتك.. لا تستسلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.