في رواية ١٩٨٤ لجورج أورويل، تمارس السلطة في الدولة الشمولية تقنيات دعائية وخطابات تعبوية تستعدي الغير في سبيل حشد الرأي الوطني دائما نحو اتجاهات تشاؤها، وقبل جرائم الهولوكوست التي ارتكبتها النازية ضد اليهود والأقليات الأخرى مارست خطابا تعبويا كهذا تمهيدا لإجراءات أقسى قد تقتضيها المصلحة لاحقا، وهو ما حدث فعلا بأبشع الطرق الممكنة.
الشوفيني السعودي لا يحاول فهم الظروف التي جلبت أناسا لبلاده والتي تشبه ذات الظروف التي دعت أجداده للذهاب لبلاد أخرى في زمن ما قبل الطفرة النفطية |
قبل أيام، راج وسمٌ على تويتر بعنوان ( ترحيل الأجانب مطلب وطني )، وعلى عكس ما أراده مبتدع الوسم، فقد جاءت ردود فعل السعوديين ضده وبشكل ساحق، ففي عصر التواصل والانفتاح على ثقافات بعيدة وقريبة، لم يعد لمثل هذه المقولات اللاعقلانية مقدرة على البقاء إلا في أذهان منغلقة لا تقرأ، ولا تحتك بالآخر أو تنخرط في حوار ثقافي عابرٍ للحدود الجغرافية، لكن فهم هذه الظواهر مهم جدا لمحاولة تفكيكها، وهي مهمة الجامعات ومراكز البحث والدراسات التي ترصد الظواهر الاجتماعية المختلفة وتوفر مادة لواضعي السياسات والأنظمة، وحتى يتم تفعيل مثل هذه المراكز فإن المهمة تقع على عاتق النخبة المثقفة لحشد الرأي العام ضد أي خطاب عنصري وشوفيني كهذا.
لكن لماذا تجد هذه الخطابات من يتلقفها ويروّج لها، في ظل مجتمع ساهم أجانب كثر في بنائه، وفي ظل خطاب ديني ينبذ العنصرية والقبائلية والعودة لأحكام الجاهلية الأولى بنصوص قرآنية ونبوية قطعية الدلالات؟ ربما تصعب الإجابة على هذا السؤال في مقالة.
لكن بلا شك أن الأسباب يمكن تتبعها اجتماعيا، ولا يمكن عزوها فقط لأسباب اقتصادية حالية يعاني منها المجتمع السعودي مؤخرا، كالبطالة وعدم توفر فرص عمل، فمن المؤكد أن من يدعو لترحيل الأجانب لا يقصد الأطباء والمهندسين، وإنما الفئة العاملة الأكبر والتي تشغل المهن المتعددة والتي فقد المواطنون لياقة العمل فيها مع اعتياد حالة الرفاه وتراكم الثروة، الأمر الذي حدث خلال فترة قصيرة جدا لا تتجاوز جيلا عمريا واحدا.
الشوفيني السعودي يضع نفسه في مواجهة الجميع، هو هنا بينما الأغيار في الضفة المقابلة، لا فرق بينهم وبين ثقافاتهم المتباينة فيما بينها، بل كلهم سواء، عربا كانوا أم عجما ما داموا لا يشبهون أوهامه. إنه يبصر مشاكل مجتمعه لكنه يشير لمكان آخر بعنصرية وغباء، ولا يحاول فهم الظروف التي جلبت أناسا لبلاده والتي تشبه ذات الظروف التي دعت أجداده للذهاب لبلاد أخرى في زمن ما قبل الطفرة النفطية، إنه ينسى -أو يجهل أحيانا لأن مثل هذه الأفكار تسكن خارج منظومة وعيه- أن الشعوب بحاجة للشعوب، والثقافات تتوسل بالثقافات، وأن البشرية تبادلت المنافع والاختراعات والأبجديات وأساليب الكتابة والمصالح المختلفة منذ القدم، وأنه لا يمكن لشعب أن يدين بالفضل لنفسه في كل شيء.
المهمة المستحقة تكمن في محاولتنا استصدار أنظمة تحقق العدالة وتكفل شروط العيش الكريم، أنظمة لا تقهر الإنسان وتتنكر لميلاده ووجوده في ما يعتبره وطنه الوحيد |
في تجربة طريفة، تم جمع أناس من ثقافات مختلفة لتحليل الحمض النووي ( DNA )، فبينت التجربة أن محدداتنا الجينية مختلطة بشكل كبير، ضاربة عرض الحائط بفكرة صفاء العرق التي تتكئ عليها خطابات عنصرية كثيرة، وهي تشير بحسم إلى زمن كان الإنسان فيه سوّاحا يجوب الأرض بحثا عن الرزق والأمن والفرصة الأفضل للمعيشة والاستقرار، حتى لقد أجاز الفقه الإسلامي الانتساب لبلدٍ في حال قضاء أربع سنوات فيها، وكتب التراث زاخرة بأسماء أئمة وعلماء جمعوا كنى من عديد البلدان التي طلبوا فيها العلم واستقروا بها.
قد يقول قائل إن هذه الأفكار بوهيمية وحالمة ولا يمكن أن تجد مكانا لها في ظل مفاهيم الدولة الحديثة، وقد يكون هذا صحيحا، لكن المهمة المستحقة تكمن في محاولتنا استصدار أنظمة تحقق العدالة وتكفل شروط العيش الكريم، أنظمة لا تقهر الإنسان وتتنكر لميلاده ووجوده في ما يعتبره وطنه الوحيد، ولا تُركبه مجاهيل الحياة فجأة وبلا إنذار -كما حدث مع أحد الأصدقاء حين تم ترحيله بناء على شكوى كيدية من كفيله بعد أن وُلد وعاش بمكة لثلاثين سنة أو تزيد-، أنظمة لا تمرر بسهولة مقولات عنصرية بسهولة واستهتار، من قبيل: "أخرجوا الأجانب من جزيرة العرب" كما صرح مرة بذلك كاتب معروف.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.