شعار قسم مدونات

حينما تصبح الخيمة مطلباً

blogs - refu
إنه طفل وإن افترش الحصى، معاندا لهيب الشمس والبؤس في فؤاد أمه، التي ضاقت ذرعا بما انتهى إليه الحال. وهي ما تزال أمّا، وإن فقدت الدار ورب الدار، ومضت تسعى بين صفا المنظمات ومروى أهل المروءة. أما أباه المعلَّق في غرفة التعذيب، فما بؤسه وحرمانه بأقل من ألمه، ولا أقسى من سجنه وسجّانه.

ليس مهما كيف انتهى بهم الحال إلى أدناه، نازحين بلا مأوى، ومواطنين بلا وطن، ليس مهما أي شيء.. حينما تصبح الخيمة مطلبا، وماء الشرب غنيمة. وحينما يصبح الأمر كذلك، وهو على ما هو عليه، فمن منهم هو الوطن المضاع؟ أيُمَثَّلُ الوطنَ طفلٌ مهجّر محاصر، تُكاد له المكائد، ويخشى فرعون على عرشه من مستقبله؟ أم الأم التي تحمل هموم أمة وصبر نبي وعجز نازحة؟ وهل يكون ذلك السجين بلا جريرة، الذي لا تلوح قدماه الأرض ولا تلامس يداه غير الأصفاد، ولا يؤلمه ذلك بقدر ما يؤلمه فقدان الأحبة والخشية عليهم؟

لم يكن في الحسبان أن غربتهم ستمتد لسنوات عجاف، وأن حصار المدن سيقتلها جوعا، والقصف المتواصل سيمطرها لهبا، وأن الحال سيسوء حتى يلجئهم إلى من يهمه الأمر.. فلا يعيرهم اهتماماً.

أو ربما يكون وطنهم ذلك السجان، أو المسؤول عن خراب الدار، وشتات الأهل، وسرقة الماضي، وضياع الحاضر والمستقبل. ليس مهما ذلك أيضا، فما مر به الجيل شوَّه الذاكرة المتعلقة بالوطن، سواء كان مغلوبا على أمره، أو ظالما لذوي القربى، فالنتيجة واحدة. تلك الذاكرة المحملة بالحضارة والكرامة والشموخ، باتت هرطقة في زمن الطوائف، وزقزقة لا تعلو على صوت الرصاص، فهي لا تسد رمقا، ولا تقي حرا أو بردا، ولا تسمن ولا تغني من جوع.

غياب الماضي وعدم الاكتراث له، لا يعني شيئا أمام مشكلة الحاضر، فذلك البيت أصبح ساترا، وتلك الحديقة زُرعت لغما، ومنارة المسجد ملئت ثقوبا أو نُسفت حتى الأرض، أما المدرسة والمستشفى، فليست سوى مواقع استراتيجية يجب السيطرة عليها، أو تدميرها، والمدينة بالمجمل تحت القصف وسياسة الأرض المحروقة.

وأهلها، أولائك الضحايا الذين لا يمثلون سوى أرقاما في نشرات الأخبار، بين قتيل وجريح، أو ناجين نزحوا من الموت إلى الموت، وحينما نزحوا إلى المجهول، كان أفضل مستقر لهم خيمة، أو هيكلا لمن وجد منهم مأوى، ولم يبق وأهله في العراء.. وما تزال قوافلهم تَتْرا، ترد المخيمات المتخمة بالحرمان، لتجري عليهم أيام بلا زمن، فلا الوقت يمضي ولا الأوجاع تحتمل، ولا طاقة لهم على المحنة التي أثقلت كاهلهم فوق الهم الذي لا قبل لهم به.

عاما يجر آخر، والنازحون يرقبون الأيام، علها تجود بأمل يتشبثون به، ليمنّوا النفس بحلم العودة، بعد أن جفت حناجرهم بالمناشدات. نزحوا من مدنهم التي تحولت ساحات قتال، ولم يكن في الحسبان أن غربتهم ستمتد لسنوات عجاف، وأن حصار المدن سيقتلها جوعا، والقصف المتواصل سيمطرها لهبا، وأن الحال سيسوء حتى يلجئهم إلى من يهمه الأمر.. ولا يعيرهم اهتماماً.

إلا أن الواقع البائس يطرح أسئلة عاجلة، فهل للنازحين داخل الوطن حق في العودة إلى مدنهم، أم ستبقى أعينهم على الديار؟ وما أصعبها من نظرة وما أبعده من أمل! وهل من شفيع للمعتقل ظلما وعلوا واستكبارا في الأرض، يخرجه من حياة البرزخ، ويلم شمل الدار والجار والسُّمّار والأهل؟ وبعد ضياع الماضي والحاضر، ماذا عن المستقبل، أضائع هو الآخر! وذلك الجيل الذي ترك المنزل والمدرسة، بل وحتى الشارع، سجين في مخيم النزوح، هل لديه استعداد لبناء وطن؟ وهل يستطيع؟

إلا أن السؤال الذي يبقى هو الأشد عجلة وأهمية للعائلة النازحة، بعد أن ضاقت عليهم المخيمات بما رحبت، وضاقت عليهم أوطانهم: هل من خيمة تؤويهم بدلا من المبيت في العراء؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.