هذا هو الواقع المرّ الذي نعيشه بعد أن فقدت الانتخابات معناها تماما، وصار التمثيل النيابي أضحوكة يتندر عامة الناس، والوصول إلى السلطة والبقاء فيها لا علاقة له بالشعب واختياره ورضاه أو غضبه، وهذا حال أي مجتمع ابتلي بالديمقراطية الصورية وغابت عن حياته السياسية والاجتماعية معاني الشورى وضوابطها.
إنه زمن الهجمة على ثوابت الأمة قانونيا والتطبيع مع الصهاينة والارتماء الكامل في أحضان فرنسا، ليس بقرار من وزير أو وزيرة وإنما وفق منهجية واضحة تصرّ على اتباعها الأقلية المتحكمة في شؤون البلاد، ومن الخطأ الظن أن ما يجري في هذا القطاع الحيوي أو ذاك مخالفة من مسؤوليه للسياسة العامة لنظام الحكم، بل هو اختيار سيادي بدأ تنفيذه منذ زمن بعيد وبلغ أوجه في ظروف التردّي العام الذي وصلت إليه الجزائر.
دعاة التغريب لا يبالون بتوجّه الشعب وإرادته، فعمدوا إلى محاولة تجفيف منابع التدين بتغيير المناهج الدراسية لتخلو بصفة شبه تامة من الروح الإسلامية |
والمقصود منذ أوّل خطوة في الطريق هو الانصهار في الزمن الفرنسي أي تبني العلمانية والتحلل من القيم والأخلاق والتمكين للغة الفرنسية وثقافتها حتى ولو تأكد العالم أجمع أنها لغة متأخرة مقارنة بالإنجليزية، فالهمّ ليس التقدم والتنمية والتعليم الراقي لكنه بالدرجة الأولى الانسلاخ من الإسلام وتهميش العربية.
ولعلّ الاشتغال بمسألة المناهج التعليمية وما طرأ عليها من تغيير وما شابها من شوائب تدلّ كل القرائن على أنها مبيّتة ومقصودة، ورغم خطورتها وأهميتها، قلت لعلّ الاشتغال بها مسألة لا يجوز أن تغطي على ما هو أهمّ منها وأخطر وهو قضية التربية التي أهيل عليها التراب نهائيا لصالح " التعليم " -الذي لا يخفى حاله على أحد- إلى درجة أن المؤسسات التربوية من الابتدائي إلى الجامعة لم يعد فيها انضباط ولا تحكمها قيم ولا أخلاق بل غدت مرتعا للمخدرات والانحرافات الخلقية والسلوكية والجريمة بأبشع أشكالها.
ويكفي أن نلاحظ لباس الفتيات وتسريحات شعر الذكور وهم يقصدون " طلب العلم "، وهذا لا يثير لا الوصاية ولا الإعلام ولا الأوساط "التنويرية والتقدمية" لسبب بسيط أن ذلك بغيتها وقد خططت له وبشرت به لأنه من أمضى الأسلحة لمحاربة الإسلام، فأين التربية وأين التعليم؟
وحتى الطرق التي ابتدعوها لغرس حب الوطن في نفوس الطلبة بزعمهم هي أفشلُها على الإطلاق، فإجبار التلاميذ على حضور رفع العلم والامتثال لعزف النشيد الرسمي بالوقوف كل صباح وكل مساء أدّى إلى نتائج عكسية تماما كما يلاحظ كل متتبع لشأن المدارس وسوسيولوجيا الشباب.
إن التغريب يجري على قدم وساق، ودعاتُه يسخرون القوانين والإعلام والقدوة السيئة والاستعانة بالخبرات الأجنبية لمسخ الإنسان بدءا بالمرأة والأسرة والمناهج الدراسية، ويستثمرون من أجل ذلك في الغزو الفكري بتيسير سبله وبالتنصير باعتباره حرية المعتقد وبالتشيّع لبثّ البلبلة الفكرية وتصعيد الخصومة بين مكونات المجتمع.
لا يبالون بتوجّه الشعب وإرادته ويعلمون أن الظروف لن تناسبهم أكثر مما هي عليه الآن، فعمدوا إلى محاولة تجفيف منابع التدين -بعد تحييدهم للمسجد بأكثر من وسيلة- بتغيير المناهج الدراسية لتخلو بصفة شبه تامة من الروح الإسلامية والتنشئة على المرجعية الأصيلة بل بدأ حشو عقول الصغار بنظرية دارون (التي لم يقم عليها أي دليل علمي بل هي فرضيات لا تقرّها المجامع العلمية المختصة في الغرب.. وحتى في فرنسا)، وبخرافات الإغريق بالترويج لتعدد الآلهة وتصرّفها في الخلق.
وماذا عسى تفعل دروس قليلة باهتة فيما يسمى التربية الإسلامية لتثبيت العقيدة وإيقاد الروح الدينية والتحبيب في الأخلاق الكريمة؟ بل المقصود عكس ذلك تماما، فهم يخاصمون عقائد الإسلام وشرائعه وشعائره وأخلاقه، وقد خلا لهم الجوّ في الزمن الفرنسي لإنفاذ برنامجهم وتحقيق أهدافهم بوسائل الدولة وقوتها.
لا بدّ من تحية خاصة لجمعية العلماء التي انبرت لحملة التغريب بكلّ قوة وفرضت نفسها كمحاور جادّ لا يمكن القفز عليه.. بالمناسبة أين أدعياء السلفية من هذا الحراك؟ |
وقد اعتادت الأقلية التغريبية استيراد مختلف المناهج والبرامج السياسية والايديولوجية رغم أنف الأغلبية، وزادت على ذلك بموقف لا يتغيّر هو قصف من ينتقد خياراتها بوابل من التهم الخطيرة الباطلة من غير أن تمكن خصومها من طرح آرائهم ووجهات نظرهم بحرية عبر وسائل الإعلام الثقيلة فضلا عن أن تقبل مناقشتهم، بل تضيّق عليهم الخناق بكل وقاحة لتحول بينهم وبين الرأي العام، ولولا بقية من التنظيمات الشجاعة والشخصيات الفذّة الأصيلة لتجرّأت أكثر ولأفْسدت أكثر.
أين الشعب من كلّ هذا؟ إنه بطبيعة الحال أسير الأوضاع الاجتماعية والنفسية التي سيّجتْه بها الأقلية "المفيدة" فأصبحت قطاعات كبيرة منه تدور بين اللامبالاة والانشغال بالحياة المادية اليومية والتعويض عن سوء أداء المدرسة بالدروس الخصوصية التي ترهق ميزانيتهم وتزيد أبناءهم حملا من غير مردود علمي ملموس.
ويقع العبء إذًا على النخبة المتشبعة بدينها ولغتها وقيمها وأخلاقها لمقاومة حملة التغريب على كلّ المستويات ومهما كان شكلها، بفضح المخططات المبيتة ودحضها بالحجج العلمية والقانونية وتنبيه الرأي العام بغير توقف واستنفار الكفاءات الموجودة اجتماعيا وإعلاميا وحزبيا واقتراح البدائل الناجحة بحيث تبقى القضية حيّة لا يعتريها التغافل والنسيان، فكلما لجّوا في التغريب زاد التزامنا بمرجعيتنا الدينية، وكلما فرنسوا ازددنا تمسكا بالعربية، وكلما أفسدوا أصلحنا حتى ننعتق من الزمن الفرنسي و نسترجع شخصيتنا.
و لا بدّ من تحية خاصة لجمعية العلماء التي انبرت لحملة التغريب بكلّ قوة وفرضت نفسها كمحاور جادّ لا يمكن القفز عليه.. بالمناسبة أين أدعياء السلفية من هذا الحراك؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.