كتابنا لهذا الأسبوع هو "فتاة من ورق" أو La Fille de Papier للكاتب الفرنسي غيوم ميسو أو Guillaume Musso صدرت لأول مرة باللغة الفرنسية الأصلية عام 2010، وترجمت لعدد كبير من اللغات العالمية، من بينها العربية، فصدرت بلغة الضاد عام 2012 عن المركز الثقافي العربي.
تحكي هذه الرواية عن توم بويد، الكاتب الأمريكي الشاب، الذي حققت رواياته أرقام مبيعات خيالية دفعت به إلى دائرة الشهرة والثراء، لكنه يتعرض لأزمة عاطفية بعد تخلي حبيبته عنه، فيغرق في دوامة من اليأس والاكتئاب، ويوشك على الإفلاس، خاصة بعدما أصيب بما يطلق عليه الروائيون "حبسة الكتابة" أو "لعنة أو أزمة الورقة البيضاء" التي تمنع صاحبها من كتابة حرف واحد بسبب عسر الإلهام.
فكم من كاتب يملك كل مقومات "الصنعة" الروائية لكنه يسقط في فخ الرتابة والإملال، وحتى وإن كانت رسالته الأدبية سامية فإنه يعجز عن إيصالها للقارئ |
فجأة تظهر في حياته فتاة تقول بأنها هي بيلي بطلة رواياته، وأنها سقطت من كتبه، وهي الجميلة البائسة التي تقول بأنها مهددة بالموت إن هو كف عن الكتابة، فهي إنسانة من ورق، وحياتها هي مرتبطة بقلمه هو! وهكذا تبدأ رحلة غريبة -على طريقة الأفلام الأمريكية- يختلط فيها الواقع بالخيال، بهدف واحد: إنقاذ بيلي من الموت! لكن السؤال المطروح هنا: من سينقذ من؟ فالنهاية ستحمل معها مفاجأة غير متوقعة للقارئ..
حققت هذه الرواية مبيعات قياسية زادت من شهرة الكاتب ميسو، الذي عرفه الجمهور مع روايته "وبعد" أو Et après ومازال حتى الآن محافظا على رتبته المتقدمة في سلم الروايات الأكثر مبيعا.
ولكن دعوني أبدي رأيي في أدب ميسو بعد قراءتي لمعظم أعماله:
بصراحة شديدة، علاقتي بهذا الكاتب غريبة جدا، فأنا أدرك في قرارة نفسي بأنه لا يقدم في رواياته ما يمكن اعتباره أدبا عميقا حقيقيا، فأعماله مجرد سندويتشات أو روايات "فاست فود" كما يطلق عليها الأوروبيون والأمريكيون، أي أنها روايات ذات صبغة تجارية محضة، فهي موجهة بالدرجة الأولى لفئة معينة من القراء، وهدفها الأول والأخير التسلية، وتصلح في معظم الأحيان ك "قنطرة استراحة" للقارئ بين عملين أدبيين من العيار الثقيل.
كما أن معظم أجوائها مبنية على طريقة الأفلام الهوليودية، ولن تجد فيها رسائل أدبية حقيقية أوصلت الأدباء العظام إلى الخلود، كما أن أعمال ميسو مصنفة ضمن دائرة "الأكثر مبيعا" المعروفة، والتي تجعلها دائمة الحضور في المكتبات وعلى الأرصفة، ولكنني أحرص في كل مرة على مطالعة عمله الجديد ما إن يحتل مكانه على أرفف المكتبات!
لماذا؟ أعترف بأنني رغم اقتناعي التام بكل ما ذكرته في السابق، إلا أنني أستفيد من روايات ميسو في تجربتي المبتدئة مع الكتابة، وذلك في نقطتين أساسيتين:
– التشويق:
ولو أنه دوما على الطريقة الأمريكية المعهودة، إلا أن ميسو يمتلك تلك القدرة على جذب القارئ لالتهام الأسطر من البداية حتى النهاية وبنفس الحماس، فتقرأ وأنفاسك تتلاحق حد اللهاث لمعرفة حقيقة مخفية أو سر غامض يختفي بين الأسطر، وهذه في نظري نقطة تفوق أساسية في صنع الحبكة الروائية، فكم من كاتب يملك كل مقومات "الصنعة" الروائية لكنه يسقط في فخ الرتابة والإملال، وحتى وإن كانت رسالته الأدبية سامية فإنه يعجز عن إيصالها للقارئ، الذي يضطر لرمي الكتاب أو وضعه جانبا بعد قراءته لصفحات قليلة.
هذه الرواية تقترب من العالم الغامض للكتاب الروائيين، حياتهم، تقنياتهم، وأيضا معاناتهم الرهيبة، فكم من سطر أخذ من الكاتب أسابيع وربما أشهرا، ولم يكلف القارئ سوى دقيقة لقراءته! |
– الغزارة المعلوماتية:
مع كل رواية جديدة لميسو، تكتشف أن الكاتب قد تقمص دور بطل روايته بعدما قضى وقتا طويلا في البحث والتوثيق للمعلومات الواردة في عمله الروائي، فإذا ما كان البطل طبيبا مثلا، تجد أن الرواية زاخرة بالمعلومات الطبية المفيدة، وإن كان محاميا تجد أنك كونت رصيدا معرفيا لا بأس به عن القانون وخباياه، وإذا ما كان موسيقيا، شرطيا، أخصائيا نفسيا، وهكذا دواليك، وهذه مسألة مهمة في نظري، فأنا مؤمن بأن الرواية لا بد وأن تقدم إلى جانب الرسالة الأدبية والحبكة المتقنة والمتعة المضمونة، جانبا معلوماتيا مفيدا يغني ثقافة القارئ في شتى المجالات.
واعذروني إن ابتعدت قليلا عن الموضوع ولكن هذه المسألة ذكرتني بنقطة رئيسية تتعلق بروايتي الأولى خلف جدار العشق، والتي أشار بعض القراء "أو القارئات إن تحرينا الدقة" بأنهم رغم إشادتهم الكبيرة بها، إلا أن أكثر مسألة أزعجتهم فيها هي كثرة المعلومات العسكرية والحربية والتسليحية.
فأجبت حينها -ولو أن الرواية أصبحت ملكا للقارئ ولا حق لي في التعليق عليها أو تبرير بعض تفاصيلها بعدما أنهيت مهمتي- قائلا بأن أجواء الرواية فرضت ذلك، فالمعارك الطاحنة في حلب، أخطر مدينة في العالم، لا يمكن أن تسمح للمقاتلين بالخوض في أمور أخرى غير تلك التفاصيل، فقد حاولت -ما أمكنني ذلك- تقمص شخصية ذلك المقاتل الذي يتساوى الموت وحب الحياة أمام ناظريه، ويقضي يومه في الهروب من قصف جوي أو مواجهة رصاص القناصة أو التعرض لدبابة بصاروخ مضاد للدروع، مقاتل كهذا لا أعتقد -في رأيي المتواضع طبعا- بأنه سيتناول في حديثه اليومي صدور الألبوم الأخير لعمرو دياب، أليس كذلك؟
على أية حال، بالعودة إلى فتاة من ورق، فأنا أنصح بها كل كاتب أو مهتم بعالم الكتابة، حتى وإن كان كارها لنوعية "الأدب" الذي يقدمه ميسو، فهذه الرواية تقترب بشكل كبير من العالم المعقد والغامض للكتاب الروائيين، حياتهم، طقوسهم في الكتابة، تقنياتهم في خلق الشخصيات الروائية وصنع الحبكة، وأيضا معاناتهم الرهيبة التي لا يعرف عنها القارئ شيئا، فكم من سطر أخذ من الكاتب أسابيع وربما أشهرا، ولم يكلف القارئ سوى دقيقة واحدة لقراءته!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.