ثلاثة أشهر قرأنا خلالها عشرات التدوينات لمدونين من دول وثقافات وأعمار وأجناس مختلفة، تعرفنا على مدونين لم نسمع بهم من قبل وقرأنا عن مواضيع لم نهتم بها أبدا، جعلتنا نبدو قريبين من قضايا الآخرين ونشعر باهتماماتهم، اهتمامات كنا نظنها لا تهم أحدا ولا تستحق أن يكتبها إنسان.
سمعت وقرأت الكثير من الملاحظات الإيجابية حول الموقع ومحتواه الجيد وطريقة عرضه المميزة، وبالمقابل قرأت وسمعت انتقادات وجّهها بعض المحبين وفي انتقاداتهم وجهة نظر تحترم بالتأكيد، ولكن لفت انتباهي تكرار الانتقاد بأن بعض المدونات غير مهمة وتناقش قضايا غير جوهرية وأن بعض وجهات النظر المكتوبة شاذة ولا ترتقي لأن تنشرها الجزيرة أو أي من هذه المواقع.
التدوينة التي تترك أثرا ما بشخصيتي قد لا تهزك أصلا، والموضوع الذي قد يثير شعبا كاملا قد لا يعنيك أصلا، ما يهمّني ليس بالضرورة يهّمك، اهتماماتنا مختلفة ومعاناتنا مختلفة |
في الحقيقة هذا الرأي يحترم وينم عن اهتمام في الغالب، وأنا واحد من الذين يدعون لتحسين الذوق العام وتجويد المحتوى العربي القليل جدا مقارنة بمعظم لغات العالم، ولكني أرى بأن مصطلح مدونات مختلف قليلا وقد أعطى الكتاب والمدونين مساحة أوسع من التعبير عن قضايا نظن أنها غير مهمة.
الجزيرة كانت دقيقة إذ أسمته "مدونات الجزيرة" فالتدوينة تختلف تماما في شكلها ومضمونها عن المقال والتقرير وقد اختارت كثير من المواقع العربية السابقة هذا الشكل من أشكال الكتابة ونجحت نسبيا في جذب المدونين والقراء أيضا، وجعلتهم يناقشون قضايا غير سياسية ويخرجون بمخرجات قد لا تبدو مهمة الآن لكنها ستكون كذلك في وقت ما. التدوينة يمكن أن تكون طرحا سياسيا أو قضية عامة أو عن زيارة لبلد ما أو نصائح في تعلم اللغات أو سر عن بعض الآثار ويمكن أن تكون عن طعام شعبي في دولة بعيدة لا يمكن أن تصلها إلا عبر هذه التدوينة.
التدوينة التي تترك أثرا ما بشخصيتي قد لا تهزك أصلا، والموضوع الذي قد يثير شعبا كاملا قد لا يعنيك أصلا، ما يهمّني ليس بالضرورة يهّمك، وما أعاني منه على صعيدي الشخصي أو الوطني لا يمكن أن يعاني منه كل الناطقين بالعربية، اهتماماتنا مختلفة وظروفنا مختلفة ومعاناتنا مختلفة وهذا يعني أننا يجب أن نقبل الأطروحات التي يلقيها الآخرون حتى لو كنت غير مقتنع بجدواها.
تقبل الأطروحات لا يعني أبدا الإعجاب بها جميعا ولا يعني عدم طرحها على طاولة النقاش وانتقادها وانتقادها بقسوة أيضا، بل يجب علينا أن نشارك في تنقيح المدونات ونشر وترويج ما نراه مهما لا أن نقوم بترويج ونشر ما نراه شاذا كما يفعل البعض أحيانا.
علينا أن نكتب حكاياتنا وألا نتوانى عن توثيقها سواء على مواقع التدوين أو مواقع التواصل الاجتماعي أو حتى على صفحاتنا الشخصية ومدوناتنا الخاصة، علينا أن ندون ما نراه مهما وما نعتقد أنه سيحقق أثرا إيجابيا عند الآخرين، وبالمقابل علينا أن نترك للآخرين الحكم وأن نتقبل نقدهم وأن نأخذ بملاحظاتهم لنطور أنفسنا ومحتوانا العربي.
عن الحكايات التي لا تموت، يحدثنا إبراهيم نصرا الله في روايته "أعراس آمنة":
قررتُ أن أكتب ما أراه، وقد أُلقي به ذات يوم بين يديّ كاتب، أو أفتّش عن قبر غسان كنفاني وأقول له قُم وأكتب هذه الحكايات، الحكايات اليتيمة التي لا يكتبها أحد. فالحكاية التي لا نكتبها، حكايتنا التي لا نكتبها، أتعرف ما الذي يكون مصيرها؟ اسمح لي يا غسان أن أسألك، أسألك من قلبي، فأمامك يمكن أن أصرخ أو أجنّ وألا أحسّ بإحراج، لأنني أحدِّثك أنتَ، لأنك منا؟ هل تعرف ما مصير الحكايات التي لا نكتبها؟ إنها تصبح مُلْكا لأعدائنا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.