قد نعلن الحداد عن فقدان شخص عزيز على قلوبنا، ونلبس زي سواد ونأسف لرحيله، وقد نعلن الحداد أيضا عن فقدان شيء عزيز علينا ونرفع علم الحداد الأسود حزنا وأسفا على فقد الغالي والحبيب على قلوبنا.
واليوم واجب علينا أن نعلن الحداد على أوطاننا، على غربتنا داخل وطن يضيق بتواجدنا، يضيق بوعينا، على وطن يقتل أبناءه، ويشرد عياله، على وطن تحول إلى سجن فسيح، لا فرق بينه وبين السجن سوى فساحته. وواجب أن نرفع علم الحداد على وطن لم يعد وطنا، بل أرضا للخراب والاقتتال والدمار وسفك الدماء.
حداد على وطن يموت فيه شعب من أجل الظفر بكسرة خبز، وبلقمة عيش، قد يقال لا ضير في ذلك، ولكن القصد حداد على وطن لا يترك أبناءه لانتزاع لقمة عيش وقوت اليوم. واأسفاه على وطن يطحن ويسحل أبناءه في شاحنة للأزبال.
لقد أضحى اليوم وطن الصبر الملاذ الوحيد، للمقهورين والمنسيين والمحرومين، وأمست لازمة "الصبر" هي المتواترة على الألسن |
تعزية في وطن، لا يترك شعبه يهنأ بأكل خبزه الحافي والنوم في طمأنينة، لماذا لا نملك ما يمكله غيرنا؟ هكذا تسأل صاحب رواية الخبز الحافي وزاد في تساءل متسم بحرقة وعفوية لماذا نهجر الريف ويبقى آخرون في بلادهم؟ يدخل أبي السجن، تبيع أمي الخضر تاركة إياي جائعا؟ ولماذا يا شكري ما زلنا لا نملك ما يملكه غيرنا؟ لما يا شكري لا نملك وطنا يحترمنا؟ لماذا نهجر أوطاننا ولا يهجر الآخر وطنه؟ لماذا يا شكري لماذا…؟
في فترة الصبا كنا نسرح بخيالنا نطلق له العنان، ونرسم لأنفسنا أحلاما وردية، ويشطح بنا الخيال ونسمح له بالتجوال في جمهورية أفلاطون تارة، والمدينة الفاضلة تارة أخرى. كنا نشيد صروح وطن من أحلام وأوهام، ونخوض ونلعب دون مبالاة لوطن الحقيقة، وواقع لا يؤمن بالتفكير والأحلام الطوباوية.
لقد كنا غير آبهين لذلك، كانت لدينا عقيدة راسخة للتشييد وطن أحلامنا وأمالنا. تجاوزنا الصغر واشتدت صلابة عودنا وبدأ الوعي يدب فينا، واشتدت كذلك رغباتنا لتحقيق أحلامنا وأمالنا وطموحاتنا، وظلانا نحمل جذوة الأمل في قلوبنا، لكن واحسرتاه على واقع مرير، وعلى وطن لا ينصف الضعيف والفقير.
لقد أضحى اليوم وطن الصبر الملاذ الوحيد، للمقهورين والمغلوبين، والمنسيين والمحرومين… وأمست لازمة "الصبر" هي المتواترة على الألسن والأفواه. لا ملجأ لنا إلا وطن الصبر، لنهجر إليه و نتفيء في ظلاله، فيه أمالنا و ألامانا، هو وطننا الذي نهجر إليه قسرا لا ترغيبا، هو منصفنا من كل اعتداء ومن كل ظلم، فكل نفس ذائقة الظلم والعذاب والحرمان والفقر…موطنها الصبر.
إلى متى يا وطن نظل على حالنا نهجر وطننا في خيالنا، نمنى النفس في كل دقيقة الهجرة إلى وطن يعترف بنا وبمواطنتنا، فحداد على وطننا وتعزية في وطن لا ينصفنا ويتركنا جياعا واقفون في الطابور طويل ننتظر كسرة خبز وقليلا من الماء، فيا وطن…
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.