شعار قسم مدونات

تركيا ومعادلة التوازن الأمريكي الروسي في سوريا

blogs - russia
عندما تكون في حالة حرب باردة أو عسكرية مع دولة أخرى فإنك تستخدم كل الأدوات الضغط لإرهاق الدولة المعادية. وعندما تتنافس تلك الدول على الاستئثار بك، فتكمن مهمتك في تحريك صراع المصالح بين تلك القوى، ثم تحقيق التوازن بينها.

وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عندما حرك صراع المصالح بين القبائل في غزوة الأحزاب، ثم حقق التوازن بصلح الحديبية، الذي وقف بعض المشركين معه، وبعضهم مع قريش.

وربما هذا ما تحاول تركيا فعله في القضية السورية، فهي لا تستطيع محاربة العالم كله لتحرير كامل سوريا، أو حتى لإيقاف المجازر اليومية، وبالأخص مع تواطؤ الشرق والغرب مع الأسد في مجازره وحملاته الطائفية في التطهير.

روسيا حقيقة تعيش مأزقاً حقيقياً، فلبنان بيد فرنسا عضو الناتو، ومفتاح الأردن بيد إسرائيل الحليفة لأمريكا، والعراق أصبحت أمريكية بوجوه عراقية.

روسيا كانت تأخذ فاتورتها من النظام السوري ومن خلفه إيران، لكن فرص النظام السوري في سداد الفواتير أصبحت صفراً مع توقف كل مصادر دخل الدولة، فالصناعة والتجارة والسياحة متوقفة، ومصدر الدخل الأخير وهو النفط كانت مناطقه بيد داعش، وانتقلت الآن لقسد وحليفتها أمريكا. وإيران كلما استمرت الحرب لفترة أطول لن تكون قادرة على سداد الفاتورة، وضعفت احتمالات أكثر وأكثر مع إعلان أمريكا أن الحرب على داعش ستستغرق 20 عاماً!

ثم تلاشت أحلام روسيا بتقاضي قيمة فواتير الحرب مع بناء أمريكا لقاعدتها في مناطق النفط جنوب عين العرب! فأصبحت روسيا كثور الساقية؛ هي تدفع فاتورة الحرب، وأمريكا تستلم قيمة الفاتورة من النفط بدلاً عنها!

روسيا حقيقة تعيش مأزقاً حقيقياً، فلبنان بيد فرنسا عضو الناتو، ومفتاح الأردن بيد إسرائيل الحليفة لأمريكا، والعراق أصبحت أمريكية بوجوه عراقية. أما إيران فقرار عودتها إلى قائمة الإرهاب وقرار استئناف العقوبات عليها بيد أمريكا أيضاً، وبالتالي لا يمكن لروسيا أن تدخل سوريا من خلال إيران، بل ولا أن تتقاضى فاتورتها منها..

ليبقى منفذها الوحيد إلى سوريا هو تركيا، فتضرب بذلك عصفورين بحجر واحد: تشارك في عمليات إعادة إعمار شمال سوريا بشراكات وعقود من الباطن مع الأتراك، وتضع تركيا في وجه المدفع لمواجهة السياسية الأمريكية في سوريا.

هذا المنفذ الذي حاولت أمريكا سده على روسيا أيضاً من خلال عملاء أمريكا في الجيش التركي الذين أسقطوا الطائرة الروسية، لكن المحاولة باءت بالفشل.

كل ما سبق يجعل روسيا أمام أحد خيارات:
1- الانسحاب من سوريا، وإعلان الهزيمة، وبالتالي عدم تقاضي الفاتورة.
2- الدخول في مواجهة مع أمريكا على مناطق النفط في شرق الفرات.
3- الإبقاء على خيارها السياسي جنوب سوريا مع الأسد في استمرار المجازر، في ظل عدم وجود أدوات لتركيا عليها، وخيارها شمال سوريا مع تركيا، لمراقبة التطورات السياسية والعسكرية بين تركيا وأمريكا، وهو ما قامت به روسيا حقيقة.

هذا من طرف روسيا، فماذا عن الرؤية الأمريكية في المنطقة؟!
كانت أمريكا تعول كثيراً على نجاح الانقلاب التركي، لتخرج روسيا صفر اليدين من اللعبة السورية، كما خرجت بريطانيا صفر اليدين من اللعبة العراقية من قبل، بل وطنت عدة دول إسلامية أنفسها على الوضع الجديد بعد نجاح الانقلاب، لكن ذلك لم يحصل!

وهذا زاد تمسك أمريكا بخياريها الوحيدين: الأسد في جنوب سوريا، ولن تجد أسوأ منه مهما بحثت، والـ pyd في الشمال لتلعب من جديد على وتر الدولة الكردية، ولكن دون تقديم أي تنازلات تثبت صدقها في تأسيس الدولة -أو حتى الحكم الذاتي- فهي لم تُزِل الـ pkk وأخواتها من قائمة الإرهاب.

الخيار الجنوبي لا يمكن له أن يبقى دون الدعم العسكري والمالي الإيراني، أما الخيار الشمالي فهو يتضاءل تدريجياً مع قضاء الجيش التركي على عمقه الاستراتيجي وخزانه البشري في جبال قنديل.

لتتفاقم الأمور أكثر على أمريكا إذا علمنا أنها لن تستفيد من شمال شرق سوريا إلا إذا قضت على داعش، وداعش التي أسستها أمريكا ورعتها ووعدت بعدم زوالها لعشرين عاماً وجعلتها فزاعة تخيف بها تركيا، لا يمكن أن تقضي عليها من خلال الجسم المترهل أصلاً الـpyd، بل لا يمكن أن تقضي على الـpyd الذي هو ذراعها الوحيد في المنطقة في مواجهة مع داعش.

لتبقى بذلك أمريكا أمام خيارات أحلاها مر، وهي:
1- الانسحاب، والتخلي عن مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وهذا شبه مستحيل.

2- مواجهة تركيا سياسياً، وهذا سيجعل أمريكا منحازة بشكل تلقائي للأسد وداعش؛ لأن تركيا الآن تتحرك بناء على العامل الأخلاقي في إيقاف المجازر، وعلى عامل الضغط الشعبي لدفع السوريين إلى داخل الحدود السورية. ويصعب على أمريكا أن تصرح بعلاقتها الحميمية مع الأسد وداعش، فهذا سيجعلها العدو رقم واحد شعبياً، وسيحرق كل أوراقها الاقتصادية في العالم الإسلامي فيما لو حصلت مقاطعة لبضائعها بسبب ذلك.

3- تجميد خطوطها العسكرية، والحفاظ على ذراعيها المتعارضين بشكل تام: داعش والـpyd، لاستخدام الأول في ضرب القوات التركية داخل سوريا، واستخدام الثاني لضربها داخل تركيا.
وتبقى تركيا في ظل هذه التوازنات تتقدم في مناطق داعش، تلك الفزاعة التي صنعها الإعلام العالمي، لتبقى روسيا تحرق الأخضر واليابس في حلب أملاً في تغيير خطوط المواجهة والخريطة الديمغرافية قبل وصول القوات التركية إلى حدودها؛ لأن روسيا ستكون مضطرة حينها للإجابة بنعم أو لا (مع أو ضد)، ولن يكون هناك خيار آخر.

قد لا تنجح تركيا كثيراً في تحقيق هذا التوازن، ولكنها على أقل تقدير ستُبعد شبح الحرب عن أراضيها، أطول فترة ممكنة، وتروض الدولتان الكُبْرَيَتان ببعضهما خارج أراضيها.

ولتبقى أمريكا تدعي كذباً مشاركتها في هذه المعركة التي لا تسير في مصلحتها؛ لتحرض بتصريحاتها خلايا داعش النائمة لتكفر أردوغان وتقوم بعملياتها ضد تركيا، ولتستفز بعض جماعات الاستشراف السياسي الإسلامي الذين لا تظهر أصواتهم بكثافة في النت إلا ضد مرسي وأردوغان، ولتتعالى أصوات التكفير من الأردن وبريطانيا لأردوغان كما كفروا مرسي من قبل، بينما نجدهم كالقطط ضد بريطانيا والحكومات الإسلامية التي يعيشون فيها.

قد لا تنجح تركيا كثيراً في تحقيق هذا التوازن، ولكنها على أقل تقدير ستُبعد شبح الحرب عن أراضيها، أطول فترة ممكنة، وتروض الدولتان الكُبْرَيَتان ببعضهما خارج أراضيها، وتدفع بالكثافة السكانية السورية خارج أراضيها، إلى حين رضوخ أوروبا لشروطها على أقل تقدير.

لتبقى تركيا بذلك بوابة لا بد منها -أو محتملة على أقل تقدير- للدولتين لتحقيق مصالحها في المنطقة، وبالتالي لن ترغبا في إزعاجها، أو لن تدخل في مواجهة معها على أقل تقدير.

لنصل إلى السؤال الصعب السهل: أين الصوت السوري السياسي الموحد ذي الأهداف الواضحة، والمدعوم من قوة عسكرية موحدة ذات اتجاه موحد؟!

الإجابة على هذا السؤال تدفعنا بين أحد مسارين:
1- التوحد في وقت نموذجي جداً، وبالتالي تغيير المعادلة بما يناسبنا.
2- أن نبقى شذراً مذراً كما نحن الآن، وأصفارنا كلها على الشمال، وحينئذ سنضطر لاختيار التبعية للقوة الأقرب لثقافتنا وديننا وعمقنا الاستراتيجي من بين القوى الموجودة.
ولا يبدو هذان الخياران مطروحان في الجنوب السوري كما هو الحال في شمالها، لتبقى خياراتهم محدودة جداً، إن لم تكن معدومة كما رأينا في "داريا" قريباً للأسف!!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.