شعار قسم مدونات

شارع الاستغلال

blogs-شارع الاستغلال
بعد يوم عمل حافل خلال تغطية "القمة العربية" في الخرطوم في مارس/ آذار عام 2006 باغتني سائق السيارة التي أقلتني إلى الفندق قائلا بلهجته السودانية اللطيفة "هذا شارع الاستغلال" فقلت له مازحا وقد عرفت مقصده "استغلوه بماذا"، لم يتمالك "الزول" نفسه إلا بالضحك وقال لي أقصد "الاستغلال" وكررها ثانية بنفس لهجته فأعلمته أني عرفت مراده "الاستقلال" وتبادلنا الابتسامات.
 

لكن هذه المحادثة البسيطة أعادت تسليط الضوء إلى "المناكفات" التي دارت بين صحفيين في أروقة هذه الاجتماع العربي السنوي للقادة والذي يكرر نفسه. فـ"الغمة العربية" كما يحلو "للأزوال" لفظها هي فعلا التسمية الحقيقة والتي تتحدث بعمق عن هذا اللقاء وهو "غيمة" تحجب الرؤية عن الشعوب "المقلوبة" وربما "المغلوبة" على أمرها بلا "قيمة"، وصولا إلى "التغرير" بها بدل منحها "تقرير المصير".
 

يكاد لا يخلو شارع أو ميدان في العالم الثالث أو الوطن العربي من اسم "الاستقلال" ومرادفاتها من "الحرية" و"التحرير" لتخليد ذكرى جلاء المستعمر عن البلاد "بزعمهم"، لكن هذه التسميات "الرنانة" في الأغلب لا يلامس ضجيجها الأسماع فكيف بما هو أكبر من ذلك من أفعال، لتصبح هذه الكلمات مخلب "الغول" يسلط على الشعوب بدل "القول" اللين والفعل الحسن.

فهم يعيشون في "تحالف" ونحن نعيش في "تخالف" وهو يتفاهمون "بالحوار" ونحن "بالخوار"، وعندهم المواطن وصل "الحصانة" وعندنا لا يزال في "الحضانة"

فالاستغلال بدأ مع المستعمر لخيرات البلاد واستمر بعد الاستقلال بتغيير حرف واحد فاستغلت المناصب والكراسي والموارد، وجعلوا له عيدا ويوما للاحتفال إمعانا بـ"استغلال" الشعوب، وباتت هذه المناسبات طرقا جديدة "للفراق" بين أهل الوطن واللغة والدين تجعلهم شيعا وقبائل وتوقعهم في "الفراغ" المفسد للأمم، ليتحول الـ"القريب" إلى "غريب" لـ"يبقى" ثم "يبغى" المسؤول.
 

في يومياتنا العربية يعطي نطق كثير من الكلمات ببعض اللهجات المعنى الأصيل بعيدا عن الكناية والتلميح، وهنا يذكر الكاتب الفلسطيني الراحل عوني بشير صاحب زاوية "مربط الجمل" الساخرة عندما كتب مرة عن "وزارة الإيلام" ويقصد "وزارة الإعلام" في إحدى الدول الأفريقية كما كان يلفظها مرشده في تلك الدولة حينها. وفي مقالته تلك استجر عوني بشير بيروقراطية الوزارة وألم المهنة ومعاناة أهلها لأنها تكتب بـ"الألم" -بلهجة أهل الشام ومصر- "رصاصا" قاتلا و"مدادا" مخضبا بالأحمر القاني.
 

ولا تخلو الصحافة العربية والعالمية من أخطاء كلفت كاتبها أو المسؤول عنها غاليا، من هذه الأخطاء ما كتبته صحيفة (أخبار اليوم) المصرية عنوان صفحتها الرئيسية عام 1965 "مصرع السفاح عبدالناصر في الهند" وحكاية هذا الخطأ أن الشرطة المصرية داهمت منزل سفاح اشتهر في ذلك الوقت وقتلته، وفي نفس اليوم كان الرئيس جمال عبدالناصر يستعد للسفر إلى الهند، ووقع الخطأ بسبب إزالة الفاصل بين الخبرين. ومن أمثلة هذه الأخطاء أيضا كتبت جريدة الأهرام المصرية عنوانا يقول "الأهرام تثني على (عمة) الشيخ الخضري الكبيرة بدل: الأهرام تثني على (همة) الشيخ".

وتملئ حياة الصحفيين اليومية بالأخطاء فهناك صحيفة أعلنت عن نفسها بأنها "أوسخ الصحف انتشارا" بدل "أوسع الصحف انتشارا" وفي خبر نشرته إحدى الصحف تمنت لعميل لها "الشقاء" العاجل بدل "الشفاء" العاجل.
 

ومما تفعله النقطة للمعنى ما انتشر على شبكات التواصل الاجتماعي مؤخرا عن الفرق بين "العرب" و"الغرب" فهم يعيشون في "تحالف" ونحن نعيش في "تخالف" وهو يتفاهمون "بالحوار" ونحن "بالخوار"، وعندهم المواطن وصل "الحصانة" وعندنا لا يزال في "الحضانة"، والمستقبل لأبنائهم "غناء" ولأبنائنا "عناء"، وهم يصنعون "دبابة" ونحن نقاتل في وجوهنا "ذبابة"، وهم يتفاخرون بعقول تملأها "المعرفة" ونحن نتفاخر ببطون تملأها "المغرفة".

وعندهم يهتم المسؤولين بـ"استقلال" شعوبهم وعندنا بـ"استغلال" شعوبهم، والفرق في كل تلك الكلمات والأفعال "نقطة". ومع "تقلب" أو "تغلب" الزمن انشغلنا نحن العرب والمسلمين بـ"التسويغ" لخيبتنا بدل "التسويق" لمشروعنا وحضارتنا، فهل نبحث عن "النقطة" لتغير حالنا أما نبقى "نكتة" يضحك عليها الجميع؟!

في الختام شكرا للشعب السوداني الذي بلهجته اللطيفة أعطى المعنى الحقيقي العميق لكلمات طالما تغنى بها الساسة والمثقفون ليغسلوا بها عقول الشعوب!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.