مما يتميز به الإسلام عن باقي الأديان والأيديولوجيات هو طبيعته المزدوجة، حيث اعتنى الإسلام بكلا الجانبين الروحي والمادي للإنسان، كما فصل في ذلك أستاذنا علي عزت بيغوفيتش في كتابه العظيم "الإسلام بين الشرق والغرب" حيث أوضح لنا في الكتاب أن الإسلام ليس ديناً روحانياً خالصاً، بعيداً عن كل ما يتعلق بالدنيا والمادة.. وأنه في ذات الوقت ليس فلسفة مادية بحتة أرضية، لا تهتم بما وراء المادة وما وراء الحياة.
وقد اعتنى الإسلام بثلاث جوانب أساسية يمكن تلخيصها بعلاقة الإنسان بربه، ومحيطه ونفسه.. فجميع الأوامر الإسلامية تدور حول هذه المدارات الثلاثة، فلا يمكن للإنسان أن يحقق غاية الإسلام إلا بالاعتناء بالجوانب الثلاثة التي ذكرت.
وأنا أتحدث هنا بالطبع عن الصورة المثالية للإسلام كما يجب أن يطبق، وليس كما يطبقه فلان أو علان اليوم، أما الواقع فإننا حين نصف إنساناً بأنه ملتزم بالإسلام فإننا نتحدث عن صلاته وصيامه، وصدقاته ولباسه أو لباسها، وهذا ما نجد الناس يهرعون إليه حين ينوون الالتزام، فيصبون جل اهتمامهم بهذه الجوانب، والتي هي فعلاً من جوانب الإسلام الأساسية والضرورية، ولكنهم ينسون جوانب أخرى ربما تكون بنفس القدر من الأهمية.
الناس اهتموا بظاهر العبادات وتحقيق شروطها الفقهية، من أركان وواجبات وسنن، ولكنهم أهملوا تماماً الجانب الروحي للعبادة كالخشوع |
ما نشاهده اليوم، هو نفس ما شاهده حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي في القرن الخامس الهجري، حيث رأى انكباب الناس على علم الفقه وظاهر العبادات، وعزوفهم عن علم القلوب والباطن، والروحانيات.. وهذا ما دفعه لتأليف كتابه الشهير "إحياء علوم الدين" والذي ما زال يطبع ويحقق ويدرس ليومنا هذا، حيث أنه من أعظم ما ألّف في هذا المجال.
رأى حجة الإسلام أن الناس اهتموا بظاهر العبادات وتحقيق شروطها الفقهية، من أركان وواجبات وسنن، ولكنهم أهملوا تماماً الجانب الروحي للعبادة كالخشوع، واستحضار معنى العبادة وفهم الحكمة منها وغايتها، فكان منهم من لم تغير عبادتهم هذه شيئاً من تصرفاتهم وأفعالهم، مع أن الله سبحانه ذكر في كتابه الكريم "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر".
وهذا ذاته ما يحصل اليوم، فقد انشغل الناس بحسن مظهر العبادة، وتحقيق شروطها وأركانها الظاهرة، ولكنهم نسوا الغاية الأساسية من هذه العبادة وهي تغييرنا للأفضل، وتغيير حياتنا وتحسين عاداتنا. فأصبحنا نرى المصلين يقيمون صفاً مستقيماً في المسجد، وأحذيتهم متناثرة في الخارج، لم يستطيعوا نقل انضباطهم في الصلاة لحياتهم العامة.
وكذلك نرى البعض يكثرون الصلاة والصيام، ولكنهم لا ينتهون عن أي خلق سيء، ويؤذون جيرانهم وأقاربهم، وكأن الإسلام لم يأمر بالإحسان إليهم.. مع أن الأخلاق الحسنة وعدم إيذاء الناس من صلب الإسلام، حيث قال الحبيب صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" وأيضاً "أكمل الناس إيماناً أحاسنهم أخلاقاً" وغيرها الكثير من الأحاديث التي تأمر الإنسان بحسن معاملة الآخرين، والابتعاد عن كل ما قد يؤذيهم.
وقد عد الإمام الغزالي في كتاب الإحياء في باب آداب الأكل فقط أكثر من عشرين أدباً، أغلبها يصب في مجاملة الناس وملاطفتهم وعدم إيذائهم. والأمثلة أكثر من أن تحصى ممن يأمر الناس في الشوارع بالصلاة بالعصا، ومن يكفر ويفسق ويبدع كل مخالف له، وكأن الله أنزله بالحق المبين وكل ما عداه باطل!!
ومن يركز في دعوته وأمره بالمعروف وإنكاره على فروع الفروع وعلى الأمور الصغيرة، ويترك الأمور الكبيرة الجلل دون نصيحة، فتجده ينكر وينهى ويزجر بأسلوب فظ وغليظ على شيء فيه خلاف واسع وسعة للناس، وقد قال الله سبحانه "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك".
إن الإسلام ليس ديناً نسكياً بحتاً، فإن المسلم ليس مطالباً بأن يقضي جميع وقته ويومه متعبداً بنسك معين، بل إن الصلوات المكتوبة لا تكاد تتجاوز الساعة من 24 ساعة، وصيام رمضان شهر من 12 شهراً، والحج مرة في العمر، فما هي العبادة التي يقضي الإنسان فيها بقية يومه وحياته؟
إننا غالباً ما نقضي أغلبية يومنا في مخالطة الناس، نبيع ونشتري ونعمل ونلتقي ونزور ونحتفل، ونحن في جميع هذه الأحوال مطالبون بالإحسان إليهم، فنتعبد إلى الله سبحانه بتطبيق آية "وقولوا للناس حسناً" ، وذلك كله في ظل استشعارنا لوجود الله معنا، وتطبيقاً لما يحبه الله ويرضاه من الكلم الطيب والعمل الصالح.
حين يظهر وجه الإسلام الحقيقي للعالم وتتحدث أفعال المسلمين عنه، فإن الشعوب لن تصدق تلك البروباغندا ضد الإسلام وهم يرون الواقع مختلفاً عما يسمعون |
إن ما نشاهده اليوم من نظرة غير المسلمين للإسلام بأنه دين دموي، ورجعي ويحض على "الإرهاب" والظلم والقتل له مسببان رئيسيان، أولهما هو الأصوات الناشزة التي تظهر بيننا بتشويه صورة الإسلام، وثانيهما هو الجهد الحثيث لبعض الجهات الخارجية لتشويه سمعة الإسلام واتهامه بما لا علاقة له فيه، وكلاهما يمكن التصدي لهما بالعودة لتطبيق الإسلام كما هو، بكافة جوانبه.
فأما السبب الأول، فإنه ما ظهر إلا لضعف صوت الحق وأثره، فكما يقال، "إن الباطل لا ينتظر سوى خمول الحق لينتشر"، وهذا ما حصل حين فرطنا بإظهار الإسلام الحق، فتجمع الناس حول أدعياء الإسلام والتفوا حولهم وزاد صيتهم وعظم أثرهم.
أما السبب الثاني، فإنه لن يختفي مهما سعينا وحاولنا، ولكن حين يظهر وجه الإسلام الحقيقي للعالم، وتتحدث أفعال المسلمين عنه، فإن الشعوب لن تصدق تلك البروباغندا المشنة على الإسلام وهم يرون الواقع مختلفاً عما يسمعون منهم.
ولعلي أختم بقول عبدالله بن أبي زيد إمام المالكية حيث قال: جٌماع آداب الخير يتفرع من أربعة أحاديث؛ قول النبي صلى الله عليه وسلم:" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "مِن حُسن إسلام المرء: تركه ما لا يعنيه"، وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اختصر له الوصية "لا تغضب" وقوله صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.