شعار قسم مدونات

مصطلحات عسكرية في الدعوة المنظمة

blogs - soldiers
مراجعات (1)

في الحقيقة أنا لا أعرف من هو الذي أدخل المصطلحات والتعابير العسكرية إلى الدعوة المنظمة، ولا أعلم من هو الذي بدأ بنشر تلك القواعد الحربية والعسكرية واسقطها على الدعوة المنظمة.

المهم في الأمر.. أن الكثير من الكتب الدعوية تحتوي على تلك المصطلحات والقواعد مثل مصطلح "القيادة والجندية" ومثل "نفذ ثم ناقش" و"القائد الناجح جندي ناجح" وغيرها من المصطلحات، ربما يكون من استعانة بتلك المصطلحات في البداية أراد استخدامها من حيث المعنى والمجاز لا أن تكون واقعاً وأسلوباً متبعاً.

يُفهَم جيداً أن تقول للجنود في الحرب "نفذ ثم ناقش" لأن الأمر وقتها لا يحتمل التأجيل والتأخير، أما أن تقول للداعية الجديد "نفذ ثم ناقش" فهذا أمرٌ يحتاج إلى بحث ونقاش معمّق، لندرك هل هذا الأسلوب صحي أم ضار؟ ولنعلم ما هي آثاره المستقبلية؟ وهل مثل هذه المصطلحات والقواعد تفيد الدعوة حقاً؟
 

الدعوة المنظمة لا يمكن أن تقوم على نظام الأوامر فهي ليست في صراع مستعجل ولا صراع وجودي دائماً بقدر ما هي عملية إصلاحية على قدر الاستطاعة.

في الحقيقة مثل هذه المصطلحات والأساليب لا تصلح للدعاة لأنها ستصبح استغلالاً لا استثماراً، وستنشئ جيلاً تابعاً مستغفَلاً لا مبدعاً منتجاً، وستقلل الثقة شيئاً فشيئاً وستزيد من عزوف الشباب وابتعادهم عن ميدان الدعوة، وستصبح الأمور قائمة على الخوف بدلاً من الاقناع.

من جهةٍ أخرى فكرة مصطلح الجندية في الدعوة فكرة مغلوطة، ولربما برهن العلم الحديث أنها غير صالحة للاستخدام فالدعاة ليسوا جنوداً والدعوة المنظمة ليست جيشاً محارباً، فالجيش أن تواجه أعداء يسعون للقضاء عليك وانهائك، أما في الدعوة فأنت تواجه أقربائك وأصدقائك وأبناء حيك ممن غلب عليهم التكاسل والتخاذل والجهل والضياع، صحيح أن هناك من يواجهك محاولاً إضعافك لكنها ليست المعركة الوحيدة في الميدان.

الدعوة المنظمة أشبه بفريق العمل التكاملي حيث يكمل كل فردٍ فيها الآخر، فحيوية الصغير تعوّض انشغال الكبير، وخبرة المتمرس تعوّض حداثة المبتدئ، وحركة الاجتماعي تعوّض انعزال المفكر وهكذا. وإذا كانت الدعوة المنظمة ليست بالشكل التكاملي كما أسلفت فهناك خللٌ كبير وهذا الأمر سأناقشه في مقال مفصّل قريباً إن شاء الله.

نعود إلى فكرة الجندية التي تُشعر الدُعاةَ وخاصة الجدد منهم بأنهم يساقون مثل أي كتيبة لتنفيذ مهام في الجيش، يراودهم إحساس بشكل دائم بأنهم بلا قيمة، لا يستطيعون خلق تغييرٍ ما، فاقدون للأدوات ومنتظرون للتعليمات.

ماذا عن القاعدة التي تقول "القائد الناجح جندي ناجح"؟ ثم كيف يكون الجندي ناجحاً؟ في الحقيقة إذا فسرنا نجاح الجندي من الناحية العسكرية فستكون المعايير هي مدى طاعته المباشرة للقادة، ومدى عمله السريع والدقيق وعدم إثارته للجدل والمشاكل وقلة نقاشاته أو حتى انعدامها، عندها عسكرياً يكون الجندي ناجح في نظر قيادته، والسؤال ماذا لو طبقنا هذه المعايير على نجاح الداعية في الدعوة المنظمة؟

في البداية الدعوة المنظمة لا يمكن أن تقوم على نظام الأوامر فهي ليست في صراع مستعجل ولا صراع وجودي دائماً بقدر ما هي عملية إصلاحية على قدر الاستطاعة، أنا أدرك أن أي عمل منظم -حتى الدعوة- لابد من استخدام الأوامر في وقتٍ ما، لكن ذلك يكون في ظروف زمنية ومكانية قصيرة ومحددة ومؤقتة اضطرارياً، أما أن يصبح المؤقت دائماً فهنا تكمن الخطورة.
 

الثقة وتقدير قائد الجيش مهمة قبل حدوث المعركة، بينما في الدعوة المنظمة تنبع الثقة بعد الإنجاز لا قبله.

ثم إن الجميع يدرك أننا نكره الأوامر بشكل فطري، وللانتباه فإن نظام الأوامر ليس شرطاً أن يكون على شكل أمر مباشر ولكن من الممكن أن يكون على شكل خيارٍ واحد لا غير أو على شكل فرض أمر واقع لا بديل عنه، المهم أنه يأتي على شكل يسلب منك حرية الاختيار.

نعود إلى معايير نجاح الجندي ومنها كما قلنا العمل السريع والدقيق، والسؤال هنا في الدعوة المنظمة أليس هذا العمل السريع والدقيق مطلوب أيضاً من "قيادة الدعوة" إن جاز التعبير؟ أم أنهم في مواقع لا تصلح إلا إلى إصدار التعليمات وتقييم الأعمال؟ حتى أن الأمر يكون بطيئاً ويغلب عليه التسكين لا التقويم عندهم، ثم هل كان جهد الرسول ﷺ أقل من جهد الصحابة في أي موقف دعوياً أو حربياً؟

إذاً ربما نتفق أن ما يطلق عليهم "قيادة الدعوة" يحتاجوا إلى أن يكونوا عاملين فاعلين سريعين ودقيقين، مثلهم مثل جنودهم كما يعبرون، يبرز هنا سؤال حاسم.. في الجيش هناك سياسيون وحكام يحاسبون قيادة الجيش، والكل على اختلاف رتبهم يعلم أنه مُحاسِباً ومُحاسَباً في نفس الوقت، بينما من سيُحاسِب قياديي الدعوة المنظمة؟ وكيف سيكون ذلك؟

من يسقط تلك المصطلحات العسكرية الحربية يؤدي بقصد أو بدون قصد إلى تولد تراتبيات وهياكل مُحبَطة ومملّة فتجعل الداعية الشاب الناشئ غير ذي طموح، منغمس بالتراتبية العسكرية التي فرضت عليه، تاركاً التفكير بالحلول والعلاج لغيره، متربياً على التنفيذ دون نقاش.

من جهةٍ أخرى فإن الثقة وتقدير قائد الجيش مهمة قبل حدوث المعركة، بينما في الدعوة المنظمة تنبع الثقة بعد الإنجاز لا قبله، ومن هنا يمكن أن نكتشف كيف يحاول البعض استخدام تلك المصطلحات فقط من أجل التغطية على خيبات الأمل والإخفاقات، وكنوع من هدم الانتقادات قبل تولدها.

أخيراً هذا الموضوع يحتاج إلى بحث أكثر عمقاً لكنني آمل أن أكون قد حركت مياههُ الراكدة في هذا المقال.. والله ولي التوفيق.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان