لنفهم التراث بالنسبة لمحمد عابد الجابري، لابد أن نتخلى عن فهمنا التراثي للتراث الذي يتمثل في التداخل بين الذات و الموضوع الذي ينشأ عن طريق آلية "القياس الفقهي والكلامي" إذ يتم فصل الموضوع عن إطاره الأيدولوجي والزماني، والمعرفي ليتم ربطه بإطار زماني وأيدولوجي آخر هو زمان القارئ، و هذا قد يؤدي إما إلى تشويه الموضوع أو الزمان الذي أنزل فيه.
و نجد أن هذه الآلية التي يدعونا الجابري للتخلي عنها هي آلية لا تاريخية وبالتالي لا موضوعية، في عملية الانتقال من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث تحتاج للفصل أولاً بين الذات والموضوع، ليتسنى إعادتها على أساس جديد موضوعي. فهل ثمة طريقة علمية مناسبة لبناء أساس موضوعي لفهمنا للتراث؟
ما يميز الجابري في نظرته للحداثة هي رؤيته التاريخية لها ضمن شروط تحققها وهي العقلانية كضمان لاستمرارية الإبداع. |
يبدأ الجابري في الإجابة عن هذا السؤال بنقد الرؤى السائدة في قراءة التراث والتي تتمثل في الآتي:
– القراءة السلفية (القرائية التراثية للتراث): إن هذه القراءة بالنسبة للجابري يمكن أن نسميها (نكوصية) حيث تلجأ للاحتماء بالماضي في مواجهة الحاضر، و تؤكد ذاتها دوما من خلال هذا اللجوء و هي القراءة السلفية المعاصرة، التي إنشغلت كثيرا بإحياء التراث.
وهنا تحضرني مقولة مركزية في هذه القراءة و هي "لن يصلح آخر هذه الأمة، إلا بما صلح به أولها" حيث غدت هذه المقولة تحكم وعي و اللا وعي ليس فقط التيار السلفي كما يشير الجابري، بل تحكم الغالبية من وجدان المسلمين، حتى أولئك الذين لا ينتمون مذهبيا لهذا التيار، الذي يرفع – حسب الجابري – التمسك بالجذور والعودة إليها وهو السبيل الوحيد لبناء نهضة وإعادة المجد الإسلامي والعربي، ولكن كما يقول الجابري أصبح هذا السيبل الوحيد "العودة إلى الجذور" هو ذاته الهدف وليس الوسيلة في القراءة السلفية.
الحداثة:
إن كل مفهوم مهما كان معقدا له تصور ذهنيا مجردا عن لبوسه المادي أي (جوهر -روح) وتصورا آخر مادي معطى عن موقف تجريبي له مدركات حسية، وهذا هو مفهوم الحداثة الذي يراه الجابري "جوهرا " له تمظهرات أهمها (الحرية -الديموقراطية -العدل – حقوق الإنسان) وهذه التمظهرات هي التي تكون بها الحداثة وتكون لأجلها، فلا حداثة لأجل الحداثة عند الجابري.
وهي عنده مفهوماً "انبنائيا " وليس "مبيناً "أي منجزا فهو يدعو إلى الولوج إلى "جوهر الحداثة " الذي أنتج عدة حداثات وليس حداثة واحدة، كما ينتقد الجابري الذين يتبنون الحداثة كمنجزات عالمية جاهزة مما ينتج التجني على "الغير ". ويرى أنهم مقلدون لتيارات غربية معزولة داخل الغرب نفسه إذ لا يراعون الإختلاف التاريخي والثقافي ويريدون سلخ الذات الذات العربية عن ذاتها دون التأصيل للمفاهيم "كالحرية والإبداع ".
إن ما يميز الجابري في نظرته للحداثة هي رؤيته التاريخية لها ضمن شروط تحققها، وهي العقلانية كضمان لاستمرارية الإبداع والنظام الديموقراطي الحقيقي، إذ كان يقول دوماً دعونا نتحدث عن الديموقراطية وتاريخية الحداثة أمر يجعلها مرتبطة بالسياق الزمني الذي تنشأ فيه، والإشكالات التي تدفع بها لذلك نجد أن الحديث عن الحداثة عند الجابري هو حديث عن التراث؛ أي البحث عن الحداثة ضمن شروط السياق العربي وأول هذه الشروط التي يسميها العروي معيقات هي التراث.
التراث:
إن الحديث عن التراث عند الجابري حديث المنهج، وهو ما نحاول الكشف عنه وليس حديثاً عن طبيعة التراث، وإن كان المنهج لا ينفك بالنسبة له عن طبيعة المضمون. والمنهج يجعله المحك والفارق من القراءات الأخرى، إذ ترتبط رؤيته لكل من التراث والحداثة والمنهج والعلوم بسؤال النهضة الذي لن تكون الإجابة عنه مجدية وممكنة بطمس التراث وتركه كلياً، فما المنهج الذي يطرحه الجابري؟
إن الحوار والتفاعل بين الماضي والحاضر والمستقبل عند الجابري لا ينقطع، لذلك عمد في المنهج أولاً إلى ما يسميه الفصل والوصل، وهو فصل المقروء عنا ووصله بسياقاته التي أنتجته وانتجها، مما يجنبنا الوقوع في اللاموضوعية ويمكننا من قراءة النصوص واستخلاص المعنى منها هي فقط من خلال العلاقات القائمة بين أجزائها بعد هذه العملية أي (الفصل) تكون إعادة وصله بنا وفهمه ضمن أفق جديد في عملية حوسلة تراعي ماهو متحرك منه ضمن شروطه التاريخية.
إن الفصل عند الجابري خطوة أولى على درب الموضوعية، ولتحقيقها يبدأ بثلاث معالجات ضمنها في نحن والتراث وهي الآتي :
1. المعالجة البنيوية: وهي الحرص على ربط الأفكار ببعضها البعض حيث تجد كل فكرة مكانها الطبيعي.
2. التحليل التاريخي: وهو ربط صاحب النص المقروء بمجاله التاريخي وبكل أبعاده الثقافية والايدولوجية والسياسية والاجتماعية.
3. الطرح الايدولوجي: وهو لأجل إكتمال التحليل التاريخي، حيث الكشف عن الوظيفة الايدولوجية
كل حقل معرفي بالنسبة للجابري له مضمون أيدولوجي يصدر عنه بالارتباط مع الواقع السياسي الإجتماعي الاقتصادي الثقافي الذي أنتجه. |
التي كان يؤديها صاحب النص، وهذا ما فعله الجابري بشكل واضح مع ابن سينا والغزالي، فالأول يمثل عنده الايدولوجية الإسماعيلية وموظفا ايدولوجيا عند الدولة الفاطمية، والثاني ناطقا ايدولوجيا باسم الدولة السلجوقية التي كانت توظف الابستمولوجيا الاشعرية توظيفا ايدولوجيا لها.
الرؤية التي تحكم الأدوات المنهجية :
لكل منهج رؤية كلية تحتويه وتسير به، خصوصاً وأن الجابري لا يضع وقالباً نهائية بل يختبر فاعلية المنهج من خلال الخوض به في المضامين التراثية انطلاقاً من رؤى اولية وهي تتلخص في الآتي :
1. وحدة الفكر ووحدة الإشكال: إن الجابري يصدر هذه الرؤية من الكيان الذي يجمع عصر معين ويشكله بوحدة الأشكال المطروح كسؤال النهضة واشكاليتها في الحاضر، فرغم اختلاف الجابري مثلاً عن الكثيرين فكراً وايدولوجيا، لكنه مؤطر مع غيره بوحدة السؤال الإشكال معا.
2. تاريخية الفكر: بالنسبة الجابري إن كل حقل معرفي له مضمون أيدولوجي يصدر عنه، وهذا المضمون يصدر عن الارتباط بالواقع السياسي الإجتماعي الاقتصادي الثقافي الذي أنتجه، وإن لم ينتجه بصورة مباشرة يكون قد أثر فيه وإن كان من باب الايدولوجيا المضادة، فالحقل المعرفي هو الوحدة الموضوعية للمادة المعرفية، والمضمون الايدولوجي هو الوظيفة (السياسية الاجتماعية) التي توظف المادة المعرفية وتتحرك من خلالها.
إن الجابري بوضعه هذه المجالات التي يتحرك فيها المنهج، لا يغلق باب المنهج ويحكمه، فبالنسبة له الرؤية والمنهج يكونان أكثر نضجا من خلال الممارسة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.