شعار قسم مدونات

اليهود و الأقصى.. ما بين التاريخ واليونيسكو

An Israeli woman uses her cellphone as a man holds an Israeli flag before a line of Israeli Arab women seated on the curb near the Jerusalem residence of Israeli Prime Minister Benjamin Netanyahu, during the conclusion of the Women Wage Peace march across Israel, 19 October 2016. About 1,000 women including many Israeli Arabs marched to demand Israel do more to promote peace.

لإسرائيل أسلوب لا يعوزه الدهاء في السياسة التي تنتهجها في مشكلة الشرق الأوسط، وأسلوبها هذا مبني على التعقيد والانحراف بالمسائل عن الطريق الواضحة المستقيمة، بقدر ما ترتبط بغيبيّات مظلمة وأساطير متنكّرة في ثياب التاريخ وميتافيزيقيات غير إنسانية.

فمنذ بدأ المشروع الصهيوني المعاصر نشاطه في أواخر القرن الماضي والقائمون عليه يحتاطون جداً في لمس "عقدة " القدس، حتى اضطروا طوال مدة مديدة إلى أن يتزوّدوا لها، حتى إنهم جعلوا عاصمتهم أولاً تل أبيب لا القدس وقنعوا من إرضاء بسطاء اليهود في العالم بإنشاء "أورشليم جديدة" على أطراف المدينة التاريخية تتكون من بضعة أحياء إلى الغرب والشمال أشهرها "رحيبا " و" محنى يهودا "و"كرم أبراهام".
 

لكي يبتلع العالم كل هذه المغالطات دون صياح كثير، قسم قادة الصهيونية أنفسهم إلى جوقات، كل منها يتجه بصوته جهة خاصة يُلقي فيها بالبيانات والتصريحات المناسبة.

ثم أضافوا إليها أحياء عربية اغتصبوها بالإرهاب مثل البقعة والقطمون وبيت صفافا وغيرها، وجعلوا في حكومتهم وزارة خاصة تحت مُسمى " وزارة الشؤون الدينية "، ورضوا أن تبقى المدينة القديمة " القدس الشريف " بالمسجد الأقصى وكنيسة القيامة وغيرهما من المعالم والمشاهد المسيحية والإسلامية المقدسة جزءاً من المملكة الأردنية يفصله عن دولة الكيان سُور معترف به كحدود دولية من هيئة الأمم المتحدة.
 

على النقيض تماماً وفي نفس الوقت لا يتركوا قسماً غليظاً ولا قولاً معسولاً في الاستيلاء على القدس وتطهيرها من الإسلام والمسيحية إلا قالوه، ولا يكاد ينعقد اجتماع صهيوني كبير أو صغير حتى يُطلق اسم "أورشليم" مرات ومرات، ويقال إن ثيودور هرتزل -زعيم الصهيونية الحديثة- كان قد وافق على اقتراح السياسي البريطاني "تشمبرلين" في إعطاء اليهود وطناً قومياً في أوغندا بوسط إفريقيا.

ولكن غلاة الصهيونية ثاروا عليه، واعتدوا على مساعده "ماكس نورداو" بالرصاص، واتهموا هرتزل نفسه بالخيانة، وعند اجتماع المؤتمر الصهيوني العالمي السادس بدأوا يهتفون ضده من القاعة حتى إذا ما بدأ ينشد "إن نسيتك يا أورشليم" نسوا هم كل شيء وصفا له الجو وسلّمت له الزعامة.
 

ولكي يبتلع العالم كل هذه المغالطات دون صياح كثير، قسم قادة الصهيونية أنفسهم إلى جوقات، كل منها يتجه بصوته جهة خاصة يُلقي فيها بالبيانات والتصريحات المناسبة: بن جوريون وموشي ديان وبقية الكورس القومي يعلنون أنه لا إسرائيل بدون القدس التاريخية، وأن الحائط الدولي بين القدس القديمة شرقاً والجديدة غرباً كان وصمة في تاريخ الشعب اليهودي، وأن المدينة كلها يهودية مائة في المائة بماضيها ولا بد أن تصير كذلك في مستقبلها.
 

وفي نفس الوقت يقف في الجهة الأخرى الكورس الدبلوماسي بقيادة أبا إبيان ويجال آلون ليؤكد أن القدس "مدينة الله" وأن المعالم المقدسة فيها لها حصانة سماوية لا يمكن المساس بها، وأن المدينة المقدسة مفتوحة على مصراعيها للناس جميعاً من كل الملل وأنها ستظل كذلك.
 

بعد كل هذه المهاترات اعتمدت اليونسكو، قرارًا نهائيًا بشأن القدس المحتلة، حيث يعتبر المسجد الأقصى تراثًا خالصًا للمسلمين ولا علاقة لليهودية به.

وتترسّب في الرأي العام العالمي وفي العقل الباطن للناس، انطباعات هي وحدها التي أرادها اليهود، أنهم أصحاب الحق الشرعي والتاريخي الأول في هذه المدينة، وأنهم لا يتكلمون من مركز القوة فحسب، بعد نكسة يونيه 1967، بل من سجلات التاريخ أيضاً، وكاد العالم أن يبتلع ما شاءت الصهيونية بدون صياح كثير.
 

حيث كانت تستجدي بهذا الوجه إرضاء الرأي العام المسيحي في أوروبا وأمريكا، وتخدّر الرأي العام الإسلامي في إفريقيا وآسيا، وتتهرب من نقمة العلمانية واللاعنصرية في العالم أجمع، حيث أنها إن لم تنجح في خداع العالم بصورة نهائية فإنها على الأقل تجرّه في دوامتها السحرية مدة من الزمن تطول أو تقصر بحسب الظروف، بحيث تتراكم وتتراكب حتي تصبح ملفات مشكلة الشرق الأوسط في مكاتب هيئات الأمم المتحدة وأرشيفات وزارات الخارجية في العالم أشبه بمجلدات التلمود، التي لا تدعك تنفذ من اعتراض إلا تقع في إشكال أو تنزلق في شبهه أو تنساق إلى نقاش كلامي طويل.

ولكن في النهاية وبعد كل هذه المهاترات والمجهودات لتزييف الحقائق، اعتمدت اليونسكو، قرارًا نهائيًا بشأن القدس المحتلة، حيث يعتبر المسجد الأقصى تراثًا خالصًا للمسلمين ولا علاقة لليهودية به، وذلك بعد أن قررت اللجنة الإدارية في اليونسكو إعادة التصويت مجددًا على القرار الذي اتخذته ضد الاحتلال الإسرائيلي في القدس المحتلة، الذي نفى وجود علاقة بين اليهودية والمسجد الأقصى المبارك.

كل هذا والعقل الباطن للعالم أجمع ما يزال ينقع في تاريخ فلكلوري مؤداه أن القدس "مدينة داوود"، وأن ما يحدث فيها الآن هو صراع بين ظواهر طارئة وبين تاريخ قديم يريد أن يعيد نفسه، فلنعد إذاً إلى التاريخ ولنتركه يقول ما عنده.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.