شعار قسم مدونات

الموت في حلب

blogs - halab
"واللهِ ما مال الفؤاد لغيركمُ
وإنّي على جَور الزمان صبورُ
بَعَدتم ولم يبعد عن القلب حبّكمُ
وغبتم وأنتم في الفؤادِ حضورُ"

حلب.. المدينة السوريّة الأقدم والأكبر، تميّزت بالعمارة القديمة والتراث البهيّ واشتهرت بكونها مدينة العراقة والعاصمة الاقتصادية لسوريا عبر التاريخ، امتدّت حلب من نقطة صغيره جداً إلى أن أصبحت حاضرة من الحواضر السكّانية واستطاعت أن تحتلّ جزءً من الإمبراطوريات الكبرى، فعاشت إمبراطورية مستقلّة بحد ذاتها مثلاً في فترة الدولة الحمدانيّة.

الشيء الأجمل في حلب هو العدد اللامتناهي من الأبنية التاريخيّة، حيث أنّها كانت ملتقى للتجارب الإنسانيّة والثقافية، دُمّرت في يوليو 2012 بسبب القتال الذي امتدّ بين القوات الحكومية السوريّة وبين الفصائل العدائية التي لا تحصر بإسمٍ واحد، فبدأ جزءٌ من الصراع في مارس 2011 .

حلب الآن تحوّلت إلى مدينة مهجورة لم يتبق من أسواقها سوى المحلّات المغلقة، يتحسّر التجّار فيها ليل نهار على خسارة عملهم.

وفي مطلع عام 2015 والمدنيّون ما زالوا في حلب يخضعون لمزيدٍ من القصف والهجمات، وهم يعيشون المشهد اليومي للمدينة التي تتكوّم من حولهم، إذ أنَّ المشاهد أصبحت متاحة لجميع السكّان بكافة الأعمار.

يروي لنا المصوّر الفوتوغرافي "كرم المصري" تجربتهِ كمدنيٍ يعيش داخل الأسوار الحلبية، وهو يحمل بيده كاميرة بدلاً من السّلاح، فمن وجهة نظرهِ أنّ الكاميرة في هذه الحالة أقوى من أي سلاح قد يكون لأنّها العدوّ الأكبر لقادة القصف وأصحاب الصواريخ، فاعتقال الإعلامي لا يشبه في معاملته اعتقال المدنيّ العادي، فهو بدوره ينقل الصورة الحقيقية للعالم الخارجي، وبالطبع أن لا أحد يرضى بالفضيحة.

حال المدينة الذي نراه يومياً على الشاشات اعتاد قبل الحرب على أن يكون حالاً طبيعياً لمدينة هادئة على قيد الحياة، مدينة تزدحم بالأسواق والناس العاديين ورائحة الخضره، ولكنّ الآن، تحوّلت إلى مدينة مهجورة لم يتبق من أسواقها سوى المحلّات المغلقة، يتحسّر التجّار فيها ليل نهار على خسارة عملهم، فيروي لنا "يوسف سلامه" قصّته التي تحكي عن معملهِ الذي تهدّم بسبب القصف وعن عمله الذي خسره أثناء الحرب، يوسف الآن كتب على باب معمله عبارة "مفتوح كلّ يوم ما عدا اليوم".

الشيء الذي يؤلم كثيراً هو الدمار الذي لحق بالمدينة، فالدمار يصيبها ويصيب أعصاب سكّانها في آنٍ واحد، والحقيقة أنّ هذا الدمار لا يستهدف الحديث منها فقط بل يدمّر القديم والحديث، لتكون الطعنة الكبرى في دمار الأبنية التاريخية التي لا يمكن إعادتها بأي شكلٍ من الأشكال، وهذا خطأ لا بدّ من الاعتراف فيه .

الدمار مؤلم، والأماكن الآن لا يوجد فيها كهرباء، والشوارع التي مشى فيها خيل سيف الدولة أو أبو فراس الحمداني أو إبراهيم هنانو، الآن لا يوجد فيها حتى تنّورٌ من النار.

السؤال الآن الذي أطرحه ويطرحه عددٌ من الناس: إذا كان النظام قد قام بهذا الشئ بشكل منهجيّ، بمعنى في اللحظة التي رغب فيها أن يقضي على الثورة سوف يمسح كل شيء كما فعل في حماة 1982 فيعيد البناء بصورة حديثة، الكارثة أنّه سوف يسرق الرّوح الموجودة في حلب، ومن يسرق الرّوح يسرق القدرة على المقاومة عند أي شعب ! كما فعلت القوّات الأميركية بقتلها للهنود الحمر وسرقتها لأرواحهم، فنتوصّل إلى نتيجة تقول: إذا لم تنتصر الثوره، فستُسرق روح حلب بالأكمل.

"ياليتهم علّموني كيف أبتسمُ
وأرضعوني لقاح الحبّ من صغري
فلمّا تعلّقت روحي بهم فطموا"

على الرغم من كلِّ شيء، ما زلت أتخيّل أنّ الإنسان في حلب لديه القدرة على تجاوز الصّعاب وترميم الدمار من جديد.

حلب اليوم في وضعٍ لا تُحسد عليه نهائياً، ففي الواقع العملي قد قسّمت الى ثلاثة أقسام أتت بقسمٍ مع النظام، وقسمٍ مع الثورة وقسمٍ أخير -وليس آخراً- مع الأكراد، إذ أصبح هناك حلب الشرقيّة وحلب الغربيّة، وأينما تنظر من حولك سوف ترى بيوتاً مدمّرةً ومدينة قد هجرها الجزء الأكبر من السّكان، وعندما "تعتّم العين" يبدأ القصف بضرب المدينة، لتستيقظ في اليوم التالي فوق رؤوس أطفالها وأخبارها متصدّرة على شاشات التلفاز.

حبّ الحياة الذي كان في حلب لم يعد موجوداً، فالذهاب الى أيّ مكانٍ كان يستغرق عشر دقائق، الآن أصبح يستغرق أكثر من عشر ساعات.

وعلى الرغم من كلِّ شيء، ما زلت أتخيّل أنّ الإنسان في حلب لديه القدرة على تجاوز الصّعاب وترميم الدمار من جديد، وأرى أنَّ الحلّ الوحيد لحلّ هذه الأزمة هو أن ترجع حلب مدينة واحدة كما كانت، تحبّ الطرب، تحبّ كرة القدم، تحبّ السّهرات العائلية، أن يعود من هجر حلب إلى حلب مجدداً، لعلّهم تعلموا تجربة جديدة من العالم الخارجيّ، فنشكّل بهم جماعات أقوى من كلّ الثورة السوريّة، وجماعات تخرج برؤية جديدة.. ويبقى السؤال الوحيد: من هو السوري بالنهاية؟ وماذا نريد من سوريا؟ ولسوريا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.