شعار قسم مدونات

الإسلام السياسي بين الأمس واليوم..!

blogs - tunis
أضحى مفهوم "ما بعد الإسلاموية" في صلب النقاش الفكري والأكاديمي الإسلامي بشكل عام، نظراً لما يُحيل عليه من دلالات معرفية ونظرية تضع تجربة الحركات الإسلامية لما يربو عن ستين سنة في محك المساءلة المعرفية.

فلا يمكن حصر تيارات الإسلام السياسي في مجموعة من النصوص التاريخية الجامدة، كما سيكون من الصعب تحجيم هذه التيارات في نصوصها التأسيسية الأولى التي أملتها ظرفية سياسية واجتماعية خاصة.

لهذا لا مرد لفهم تيارات الإسلام السياسي المعاصرة؛ إلا من خلال الحكم على ممارساتها السياسية ونظرتها لمؤسسات الدولة الحديثة، وللشعارات التي تؤثث برامجها السياسية والاقتصادية. فهل لا تزال هذه التيارات تحتفظ بنفس التصورات الدينية لشكل الدولة ومؤسساتها، كما تشكلت عليها أول مرة؟ أم نحن إزاء عملية تحول مورفلوجي (شكلي) في أشكال تعاطي هذه التيارات مع قضايا الديمقراطية؛ والحريات العامة، ومرجعيات البنيات القانونية للدولة؟

الحالة الإسلامية الجديدة قد شهدت تفسيرات عديدة، رغم أن جميعها انطلق من مقولة واحدة، وهي مقولة "ما بعد الإسلاموية".

من المؤكد أن حركات الإسلام السياسي عُرفت منذ نشأتها كرد فعلٍ على انهيار دولة الخلافة العثمانية في بداية العشرينات من القرن الماضي، ضمت معتدلين ومتطرفين، وأنصار دعوة السلم والجانحين نحو العنف. لكن بالموازاة مع ذلك سوف تدخل الممارسة السياسية لهذه الحركات، العديد من التراجعات والمراجعات التي شكلت البنية التنظيرية والتنظيمية التي قامت عليها هذه الحركات أول مرة.

وهو ما سيتجلى بشكل واضح وثابت إبان أواسط التسعينات إلى الفترة الحالية؛ خصوصا في تصور هذه الحركات لشرعية الدولة الوطنية، ولمسألة الحق والواجب. فانتقلنا من شعار "الإسلام هول الحل" و"الدولة الإسلامية هي الحل"، الذي يقوم على أساس أن إقامة أي شكل من أشكال الدولة، من المفروض أن يقوم على المرجعية الإسلامية؛ إلى الانغماس في شكل الدولة الوطنية بمؤسساتها المدنية المعاصرة.

وهو تحول يمكن رصده لدى معظم تيارات الإسلام السياسي المعتدل من المغرب إلى تونس، مروراً بجماعة الإخوان المسلمين المصرية في شقها الإصلاحي، إلى حزب العدالة والتنمية التركي…إلخ.

ففيما يتعلق بالمسألة الاقتصادية فالمتتبع للبرامج التي تسطرها هذه الحركات في حملاتها الانتخابية، سوف يلاحظ درجة النزوع نحو الليبرالية الاقتصادية القائمة على اقتصاد السوق والخصخصة ودعم المبادرة التجارية الحرة.

وكلها توجهات تحيل في نهاية المطاف على أننا أمام حالة تحول لدى حركات الإسلام السياسي المعتدل، سواء على المستوى التنظيمي أو على المستوى التنظيري؛ فعلى المستوى التنظيمي: يلاحظ التوجه المدني في الحركية التي غلبت الجانب السري في بدايات ظهورها. ثم الجانب التربوي المحض القائم على التراتبية العمودية ما بين الشيخ والمريد، إلى تحول نحو تنظيمات مفتوحة بمقرات معلومة ومرخص لها قانونيا.

أما فيما يخص الجانب التنظيري: فقد يلاحظ المتتبع لأدبيات هذه التيارات الاجتهادات الفكرية والفقهية لدى منظريها، فيما يتعلق بالتمييز ما بين العمل الدعوي والعمل السياسي، فحين نكون إزاء العمل السياسي فهناك منطق يحكم الممارسة والفعل السياسي، وحين نكون إزاء العمل الدعوي فهناك مرجعيات وأدبيات، لا شأن للسياسة بها غير البعد الأخلاقي والتوعوي.

الجدير ذكره هنا، أن هذه الحالة الإسلامية الجديدة قد شهدت تفسيرات عديدة، رغم أن جميعها انطلق من مقولة واحدة، وهي مقولة "ما بعد الإسلاموية" التي وضعها الباحث الفرنسي "أولفييه روا" محل اختبار لما يزيد عن عشرين سنة، كتعبير عن حالة انتكاسة لمشروع الدولة الإسلامية، وتفوق منطق السياسية على منطق الدعوى لدى الحركات الإسلامية.

فقد فشلت هذه الحركات في إقامة الدولة الإسلامية سواء لدى ممارستها للسلطة السياسية كما في الحالة الإيرانية، أو جراء المضايقات والقمع الذي تعرضت له كما في الحالة المصرية. وهو ما اعتبر في نظر "روا" تآكلاً للمشروع السياسي الذي قامت عليه هذه الحركات، وفاتحةً للانفصال التدريجي ما بين الشعارات السياسية لهذه الحركات وخطابها الديني.

من أرضية هذه الاستنتاجات سوف ينتقل "جيل كبيل" لتدعيم عملية التحول الذي عرفته الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي برمته، من خلال عمله الموسوم، ب"الجهاد: توسع وتراجع الإسلاموية" Jihad : Expansion et declin de l’islamisme فبالنسبة لكبيل؛ وجد الإسلاميون من إندونيسيا إلى الجزائر، بعد مأزق مشروع إقامة الدولة الإسلامية، أنفسهم بحكم طغيان ميزان الممارسة السياسية، إزاء خطاب يتبنى مفاهيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان انسجاماً مع مسألة العدالة الاجتماعية.

إذ وصل الحد بقادة بعض هذه الحركات الإسلامية إلى التبرؤ من أفكارهم المتطرفة سابقا، والعمل على تلميع صورتهم ومواقفهم تجاه القضايا المجتمعية، بما يتماشى في كثير من الأحيان مع الفلسفة التنويرية التي تعتبر الحضارة الغربية منبتها الأصلي. وهو ما يعني بشكلٍ مباشر أنه ليس هناك عملية لاندثار الفاعل الحركي الإسلامي.

وقد شكلت أبحاث الباحث الأمريكي ذي الأصول الإيرانية "آصف بيات" أحد المحاور التي اعتمدت التجربة الإيرانية كتعبير عن رؤية سوسيولوجية بديلة لمفهوم "ما بعد الإسلاموية"، ففي عمله الموسوم بـ"جعل الإسلام ديمقراطياً: الحركات الاجتماعية و التحول ما بعد الأسلمة" Making islam democratic social movements and the post-islamist turn الصادر سنة 2007، يُعيد "بيات" قراءة واقع الحركة الإسلامية في مرحلة ما بعد الخمينية بإيران، وتأثير ذلك على باقي تجارب الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي.

فبدأ بالنظر لمدى تأثير الخطاب الإسلامي لهذه الحركات على المستوى السياسي والاجتماعي، ثم الفكري داخل المجتمع والدولة. ليخلص في نهاية المطاف أن هذه الحركات تتجه نحو "محاولة لدمج التدين بالحقوق، الإيمان بالحريات، الإسلام والحرية.

كان للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية أثرٌ بليغ في تحول الحركات الإسلامية من التكلم باسم الدين والشريعة، إلى الانغماس في واقعية الخطاب السياسي.

إنها محاولة لتحويل وقلب المبادئ الأساسية للإسلام رأساً على عقب بواسطة التأكيد على الحقوق بدلاً من الواجبات، وعلى التعددية بدل الصوت الأحادي السلطوي، وعلى التاريخية بدلاً من الكتاب المقدس الثابت، وعلى المستقبل بدلاً من الماضي".

فما بعد الإسلاموية بذلك عند "بيات" تُحيل على دلالتين اثنتين، فهي أولاً تُعبر عن "حالةٍ" وليدة لأزمة مرت وتمر بها ظاهرة الإسلاموية، مشرِعة المجال للأسئلة والشكوك والمراجعات حول هذه التجربة "المرهقة". وثانياً عن "مشروع" بديل ومحاولات واعية لتخطي الخطاب الإسلامي التقليدي "الإسلاموي" في المجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية.

تحيل التوجهات السابقة حول أطروحة "ما بعد الإسلاموية" على ثلاث مستويات من التحليل: المستوى الأول يقارب تحولات حركات الإسلام السياسي من زاوية "طوبوية" المشروع السياسي الذي تحمله، فكان للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية أثرٌ بليغ في تحول هذه الحركات من التكلم باسم الدين والشريعة، إلى الانغماس في واقعية الخطاب السياسي..

المستوى الثاني: يقارب الأطروحة من زاوية تحول التفكير السياسي عند الإسلاميين المتشددين بفعل حالة التفكك الإيديولوجي الحاصل في بنياتها التنظيمية، والانتقال من تعبئة قائمة على تصريف العنف كوسيلة لتحقيق مشروعها السياسي إلى التصالح مع روح الديمقراطية واعتماد الاعتدال كوسيلة للتدافع السياسي.

المستوى الثالث: تناول أطروحة "ما بعد الإسلاموية" من مقترب الأثر الذي تتركه الممارسة السياسية اليومية على الحركات الإسلامية داخل الحقل السياسي، حيث يكلفها ذلك إعادة تكوين خطابها المتعالي عن الواقع، وتبسيط نظرتها للفعل السياسي القائمة على النسبية بدل الحقيقة الدينية المطلقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.