شعار قسم مدونات

ما الذي خسرناه بالإدمان على فيسبوك ؟

blogs- facebook

أُلقي نظرة على ساعة يدي لأتأكد من تاريخ اليوم: سبتمبر 2016. أحاول السّفر عبر الزمن لأبعد مدى ممكن كي أستعيد بعض أجزاء الذاكرة التي تستعدّ لخيانتي عمّا قريب. بغضّ النّظر عن كون هذا الشّهر يحمل في حروفه كلّها بعض المشاعر الغريبة التي تتعلق بتاريخ مولدي، فأنا لا أهتم كثيراً بهذه الأحداث العابرة التي تسخر بها الحياة منّا في كلّ مرة. أحرّك عينيّ بعيداً عن ساعتي، وأزور موقع فيسبوك لأتأكد من الماضي بشكل جيّد.

آه، نسيت أن أخبركم أنني أستعمل فيسبوك كأداةِ تأريخيّة أكثر بكثير من أداة للتواصل، أزوره كلّ يوم بعد منتصف الليل بدقائق ليذكّرني بما حدث في السنوات الماضية. سبتمبر 2010 كان تاريخ دخولي الرّسمي للفيسبوك، لأنني قبله لم أكن أفهم أبجديات ذلك العالم! 

مضت ستّ سنوات إذن على أوّل استعمال له، ستّ سنوات سكنتُ خلالها بين "جدران" حسابات مختلفة، حتى أصبحت تشكّل منازل لي، لا يضيع مني واحد منها إلاّ وأعيش بعده أياماً من الحزن كذلك اليوم الأول الذي نرحل فيه عن أحيائنا الشّعبية التي اعتدنا على جيرانها وكلّ زواياها.. وكغيري، أبني بيتاً جديداً، بجدران جديدة بيضاء ناصعة، لم تلطّخها بعد أفكارنا اليومية التي تدعو في معظم الأحيان للذبول قبل الأوان.
 

مزيج غريب من الهراء الذي لا معنى له على الإطلاق.. بين أحلام كبيرة، وأخرى تافهة، يُسعدني أن أخبركم بكلّ مرارة أن معظم ذلك لم يتحقق لحدّ السّاعة.

ستّ سنوات من اللامعنى! 
أكتب هذا وأنا أستعيد أمام عينيّ كلّ ما مضى في ذلك العالم الافتراضي البئيس أو الطّريف، لم أعد أدري!
"لا أستطيع النّوم اليوم، دماغي يكاد ينفجر.." 
"متى سأنتهي من دراستي، أريد أن أعمل وأتزوج!" 
"من منكم يملك رابط موقع لتعلّم اللغة اليابانية؟ أحتاجه سريعاَ!" 
"هل لديكم فكرة عن طريقة الحصول على منحة للدراسة في طوكيو؟" 
"توقّفوا عن إرسال رسائل دردشة فارغة المعنى، لا أعرف لأي شيء يصلح كلّ ذلك؟"
"الحياة كئيبة جداً.. متى سينتهي كلّ هذا ؟"
"صورة شخصية أمام نهر أبي رقراق في العاصمة الرّباط"
"أحلم بالسّفر حول العالم، وسأفعل ذلك في السنوات القادمة!"
"أكره العمل في مكتب.. أريد وظيفة حرة!"
"أريد عنوان رواية غريبة ومختلفة جداً.. بماذا تنصحونني؟"

كلّ هذا وأكثر.. مزيج غريب من الهراء الذي لا معنى له على الإطلاق.. بين أحلام كبيرة، وأخرى تافهة، يُسعدني أن أخبركم بكلّ مرارة أن معظم ذلك لم يتحقق لحدّ السّاعة.. وظلّ مجرد صباغة مُزعجة على جدران حسابي على فيسبوك.
 

ولا أستغرب الآن من ذلك، فكيف يحقّق شخص يعيش في فيسبوك أكثر مما يعيش في منزله، أي شيء على الإطلاق؟ 

وسط ذلك الزّخم المقزز من الأحداث اليومية، ضاعت ستّ سنوات، وأعرف أنها لم تضع بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأنني استطعت بطريقة ما مراوغة الزمن والحصول على "تعويضات" منه، ولكن بصفة عامّة، معظم ذلك الوقت كان كبش فداء لمؤسس الموقع.

إذن، ما الذي خسرناه جميعاً بالإدمان على فيسبوك ؟ 

1. خسرنا مُتعة العيش دون إشراك العالم كلّه في أحداثنا اليومية.. أسألكم بكلّ جدّية، هل تعرفون كيف تأكلون السوشي في مطعم ياباني دون نشر صورة له؟ 

 

2. خسرنا متعة الملل والبحث عن كتاب ورقي أو برنامج تلفزي لملء الفراغات التي تُعشّش بين عقارب الساعة.. هنا أحمل لكم مقتبساً بقلم ميلان كانديرا "لمَ اختفت متعة البطء؟ آه، أين هم متسكعوا الزمن الغابر؟ أين أبطال الأغاني الشعبية الكسالى، هؤلاء المتشردون الذين يتسكعون من طاحونة إلى أخرى وينامون تحت أجمل نجمة؟". أجل، أين هو وقت التّسكع الآن والزمن يجري ثانية تلو الأخرى، منشوراً بعد الآخر، تعليقاً، إعجاباً، رسالة تلو الأخرى.

لا أحد يدرك حجم الخسائر التي يتكبّدها بعد كلّ ثانية تمضي على متابعته لمواقع التواصل الاجتماعي.. حياتك في خطر! العُمر يمضي، فهل تفهم ذلك؟

 

3. خسرنا القدرة على التفكير المنطقي بحرّية، أصبحنا كالقطيع نسير وراء أكثر الناس والمؤسسات متابعة، وأصبح ما يقولونه كتاباً مُنزّلاً.. لا يمكنك أن تخالفهم دون النجاة من القصف الذي يهدف لإلغائك كقنبلة نووية.

 

4. خسرنا أذواقنا الجميلة.. لم يعد العصر هو نفسه على الإطلاق، أصبحنا نناقش أي شيء وكلّ شيء فقط لأننا لا نعرف أين يمكن أن نقضي وقتنا خارج فيسبوك.. نناقش السياسة والدين والفلسفة والفنون والتجارة.. في منشورات تهدف إلى جعل الأمور تبدو أبسط بكثير مما هي عليه.. أصبحت قضايانا الاجتماعية تناقش على فيسبوك وتموت فيه.

بعد ستّ سنوات من الخسائر على فيسبوك استيقظت، وأدركت أنه انتهى زمن العيش في عوالم افتراضية، إن المستقبل الآن خارجَ البيت وليس بداخله، داخل الإنترنت الآخر.

مشاكلنا السياسية نحلّها بالصراعات في التعليقات قبل أن يُنهكنا التّعب ونرحل سريعاً لتغير الجو بأغنية على "يوتيوب" ثم نعود لإكمال الشوط الثاني ولا أحد يحلّ المشكلة!  أصبح فيسبوك الحلّ لكلّ شيء لأنه أصلاً لا أحد يحاول حلّ المشاكل خارجه. 

 

5. أصبحنا نعشق النقد لأجل النقد، أصبحنا أمّة تدمن السّير عكس التيار، حتى ولو كان التيار يؤدّي للجنة، يجب الذهاب عكسه، لأنها موضة العصر، لأن من يخالف يُعرف دائماً! 

يمكنني مواصلة تعداد الخسائر إلى أن أحتاج أرقاماً أخرى لانهائية، ولكن الوقت وعدد الكلمات المتبقّية للكتابة توقظني من حالة الاندماج الكلّي مع ما أفكر فيه. سأتوقف عن تعداد الخسائر وسأذكّركم أن الإنترنت عالم ضخم، واسع، يحتوي على عدد لانهائي من المواقع الإلكترونية، من العوالم الممكنة التي يمكنكم فيها بناء مستقبل جديد لكم.
 

لم ينته الوقت بعد، ربما مضت أكثر من ستّ سنوات من أعماركم على فيسبوك ولكن هذا لا يهمّ الآن.. تذكّروا أنكم أحرار الآن، يمكنكم صناعة الحياة التي تريدون بالتفكير العمَلي في طريقة تعاملكم مع مواقع التواصل الاجتماعي جميعها.. صحيح، التواصل حاجة اجتماعية، ولكن صدّقوني، هناك أنشطة أخرى أكثر فائدة لفعلها بعيداً عن التواصل. 

بعد ستّ سنوات من الخسائر على فيسبوك استيقظت، وأدركت أنه انتهى زمن العيش في عوالم افتراضية، إن المستقبل الآن خارجَ البيت وليس بداخله، داخل الإنترنت الآخر الذي لا يعرفه الكثير وليس داخل مواقع التواصل الاجتماعي.

 
في النهاية لن يكون لأصدقائك على فيسبوك فائدة حين يتعلّق الأمر بإنجازاتك. ما الذي حققته الآن؟ إلى أين وصلت؟ ما خارطة الطريق التي تنوي السّير وفقها في السنوات القادمة؟

فكّر في كلّ هذا من جديد وتذكّر أنك ما إن تجد الشيء الذي تحبّ فعله والذي يصنع منك إنساناً آخر غير ذلك الإنسان الكئيب الذي لا يتوقف عن شتم الواقع صباح مساء على صفحته في فيسبوك، فسوف تُدمن أخيراً ما هو أكثر اهمية بالنسبة لك. 

انتهى زمن الدهشة أمام فيسبوك، وبدأ زمن الفعل خارجه. فهل وصلت لمرحلة الرّشد التي تسمح لك باتخاذ قرارات صارمة تجاه عاداتك القديمة أم ليس بعد؟ 

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان