لا تركن إلى وهم أن الطاغية هو فقط ذلك القائد السياسي أو العسكري المتسلط أو الجزّار العام، فقد يتمثل الطاغية في مسلاخ مثقف، أو مُصلح، أو قائد فصيل، أو حزب، أو رب أسرة، أو فتوّة حارة، أو زوج. |
ولكنّي لا أبتغي فيما يلي النظر في تاريخ البشرية كتاريخ للطغيان، رغم كونه كذلك إلى هذا الحدّ أو ذاك، لأنّي ببساطة أريد أن احتفظ ببعض الاحترام لنوعي، وبعض الأمل بأنّه لنْ يحدث الأسوأ، وأريد أن أغادر هذه الحياة الدنيا دون خيبة مطلقة مريرة عند احتضاري. علينا في واقع الأمر، وقبل المضي قدمًا في هذا المقال الذي يستعرض نماذج الطغاة بهدف التعرف على مصادر الطاغية؛ علينا أن ننتبه أنّ الطغيان ليس صفة لمجموعة متغايرة من الأنظمة السياسيّة إلّا بمقدار ما هو انحراف نفسيّ وأخلاقيّ متكرر، يصيب أو تتورّط به الأفراد والمجموعات والمجتمعات. بمعنى أنّ الطغيان لا يقع في حقل البحث السياسيّ بمقدار ما يقع في حقل علم النفس وعلم النفس الاجتماعيّ، فطاغية واحد معتوه "يمكنه أن يستهلك مدخرّات البشريّة من علم النفس لعقود" دون الوصول إلى نتيجة مقنعة. ولك أنْ تسأل هل من الأفضل فحص السيسي أو الأسد بأدوات علم السياسة أو بأدوات علم النفس؟ أو هل أفعالهما موضع تقييم صواب وخطأ سياسيّ، أو شذوذ وخطيئة نفسيّة و/أو أخلاقيّة؟.
كما أنّ الطغيان آفة شديدة الفوعة، يمكنها أن تصيب أيّ أحد، ويمكنها أن تظهر حتى في أشدّ المجتمعات "ديمقراطية"، وأنّه على حدّ قول أرسطو قد يظهر من "إهاب الديمقراطيّ"، بل يمكنها أن تظهر عبر الديمقراطية نفسها، وهذه ليست مبالغة، وإنما ملاحظة تفيد في التحفز لكبت مصادر الطاغية، وعدم الركون إلى هجوع هذه الآفة في حقبة أو قارّة.
(1)
قال ابن فارس: «الطاء والغين والحرف المعتل أصل صحيح منقاس، وهو مجاوزة الحد في العصيان»، وكلُّ شيء يجاوز الحد فقد طغى، مثلما طغى الماء على قوم نوح. قال – سبحانه -: ((إنَّا لَـمَّا طَغَا الْـمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْـجَارِيَةِ)). وحيث أنّ معنى الطغيان اللغويّ مجاوزة الحدّ، فقد تمّ تضمين هذه المفردة معان وألحقت بها صفات كثيرة، فمن الكبر إلى الحقد والحسد والظلم والاستبداد والتنكيل والبطش والتجبّر. في متابعة صفة الطغيان في القرآن الكريم لا نجد أنّها أطلقت على فرد تمّ تلقيبه بالطاغية، ولا على نظام سياسيّ أو اجتماعيّ، بل تكرر ورودها على هيئة فعل متوقّع من أيّ أحد، من الفرد ومن الجماعة، ((وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ. الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ))، ((إنه طغى))، ((كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)). ولعلنا ننتبه هنا إلى مصدر أساسي للطاغية، وهو الاستغناء، عن أيّ ما هو آخر أو غير، الاستغناء ليس عن الله فحسب، وإنّما عن الناس، فالإنسان ما إن يتملّكه هذا الشعور حتى يتحول إلى طاغية كامن وخطير لا يلبث أنْ يسفر عن وجهه القميء عند أول مناسبة سارّة أو ضارّة.
بادر إلى تأديب نفسك وتوبيخها، وفحصها ومعالجتها، إذا ما راودك شعور ولو خافت بأنّك محض متفوّق على كلّ من حولك، أو أنك قادر على فهم وحلّ جميع مشاكلهم، لأنك تملك قدرات متميزة فائقة، أو أن القدر قد اختارك، أو سيختارك، لإعادة الإنسانية، أو شعب ما، إلى جادة الصواب، أو إذا صرت بشكل متكرر ودون انتباه تنظر وتقيّم الآخرين من أفراد وجماعات وأمم، بأنّهم مجرد مغفلين وأغبياء وهالكين ينتظرونك ولا يفهمونك وما إلى ذلك. ولا تركن إلى وهم أنّ الطاغية هو فقط ذلك القائد السياسيّ أو العسكريّ المتسلّط أو الجزّار العام، فقد يتمثل الطاغية في مسلاخ مثقف، أو مُصلح، أو قائد فصيل، أو حزب، أو رب أسرة، أو فتوّة حارة، أو زوج.
أمّا إذا وجدت في نفسك توقًا شديدًا لتولي مهمّة أو منصب أو مجموعة بوصفك المؤهل الوحيد المتفوّق لها؛ فهذا يعني حرفيًّا أنّك أصبحت ما قبل طاغية. نعم، في الهدي النبويّ، والذي تأدب به صحابته، اعتبر هذا الدافع رخيصًا ومدعاة للحذر، حتى صار رفض تولية الأمر من تتوق نفسه إليه قاعدة سياسيّة من قواعد الصواب، وصار مغالبة النفس والهرب من المنصب فضيلة يتنافس عليها الزهاد.
مبدئيا لا تختلف مصادر الطاغية في المجتمع العربيّ عن غيره، وفي الحالة الجاهلية وبالمقارنة في سياق معرفيّ وسياسيّ سائد معاصر لها، يصح ذلك أكثر، لكن الأنفة، والغيرة، والمروءة، والكرم والشجاعة، والاعتداد بالذات، ورفض الانصياع، وبقية المآثر العربية الأثيرة مثلت في الوقت ذاته مصادر للطغاة ومنعة ضدهم، لقد كان من الصعب بسبب تخلف السياسيّ العربيّ آنذاك، عمليًا عدم وجود مفهوم للدولة من أيّ نمط، من الصعب الحصول على طاغية نموذجيّ. ويبقى الحديث عن طغيان سادات القبائل أو أرباب الأسر مسألة أخرى أقلّ أهميّة، أو أنها تقع في تناول آخر.
لا يقتصر الطاغية على الرئيس، ولا ينحصر عند قائد الجيش، بل إن الطغيان يتفشى مثل الجرب، فيصيب الموظف البيروقراطي كما يخمج المثقّف والأكاديمي، ويسمّم ربّ العمل والأسرة، وهكذا. |
وفي المدونة الفقهية والسياسية تحديدًا نظر للملوك، مؤسسي الملك العاض والجبريّ، خلاف الراشد والشوريّ، على أنّهم انحراف عمّا هو صالح ومعياريّ، واستخدمت أوصاف الغلبة والقهر أكثر من الطغيان في توصيف الملوك "الخلفاء" ودولهم، وربّما يعود ذلك للتحفظ نظرًا لارتباط الطغيان كما ورد أعلاه، وفق المتداول وقتئد، ارتباطه بالعتوّ والفساد من النمط الذي يحيل إلى الكفر والتألّه. لكن، مع الوقت، وفي سياق فقه الضرورة ودفع أقلّ الضررين، ظهرت ملامح "المستبد العادل" تحت ستار فقه التغلّب والفتنة، كأفضل الموجود ريثما يصحح نفسه الانحراف، حيث يشار دومًا إلى ذلك الحاكم القويّ الحازم الذكيّ المتمتّع بالتقوى والإخلاص ومناقب القيادة، والذي يقود الناس والدنيا للصلاح، ولا مانع من مشاورة من حوله في الأمور. ويمثل الاستبداد حالة خطورة عالية للانقلاب إلى طغيان.
إنّ المستبدّ هو ببساطة ما قبل طاغية، وقد يكون النظام الاستبداديّ قائم على مجموعة أفراد. وعلى أيّ حال، في العصر الوسيط، لم يكن العرب، أو المشرق، حالة معزولة أو متأخرة، فالدولة السلطانيّة والسلاليّة، والتي تتضمن في أحسن تغايراتها مستبدًّا عادلًا، كانت هي النمط الوحيد، بل إنّ أرسطو وأفلاطون تخيلوا "مستبدًّا عادلًا" على نحو ما.
(2)
من الشائع اعتبار أنّ الطاغية هو ذلك الشخص المغرور المتعجرف المتسيّد، والذي توّلى سلطة أو تمتع بجاه، لكن أفلاطون لاحظ أنّ الطغيان مخاتل، فنفسية الطاغية إن لم يحالفه الحظ في تولي منصب هنا أو هناك، فإنّها ستقوده إلى أنْ يصير إلى عبد تابع. لأنه رأى أنّ نفسه خاوية ودنيئة وذليلة، في حالتيه، العبد والسيد، وهنا لا يريد التصنيف الطبقيّ الشائع آنذاك بل دلالة الذم في جنس العبوديّة. وفي حقيقة الأمر يتضمن الكبر قابليّة الذلة والمهانة، ولذلك نفسيّة الطاغية متقلبة بين متعجرف ومتذلل، وهذا يفسر حشود الطغاة التي تترعرع في مستنقع النظام الطغيانيّ، الطاغية التابع. ففي خطاب بريكليس الجنائزي وصف الاثنييين بأنهم كانوا "مدينة من الطغاة"، وهذا ما أريد الإشارة إليه، لا يقتصر الطاغية على الرئيس، ولا ينحصر عند قائد الجيش، بل إن الطغيان يتفشى مثل الجرب، فيصيب الموظّف البيروقراطيّ كما يخمج المثقّف والأكاديميّ، ويسمّم ربّ العمل والأسرة، وهكذا.
والطموح هو قرين الاستغناء في مؤهبات الطاغية، نظريًا، ولو تخيلنا حالة داء اكتئابي معزولة تمامًا تستحوذ على شخص ما، فإنّه لا يمكن تصور أن يصبح طاغية. ليس الطموح وحده مصيبة، ولكن الطموح والاستغناء متلازمة ما قبل طغيان موصوفة، وهم آليتان تعملان بشكل متعاضد متبادل لصياغة شخصية الطاغية. ولذلك، كان من صفات الطاغية الأساسيّة، أنّه إذا نجح في تولي سلطة أو تملك قوة بمحض الصدفة أو ببذل المجهود أو لمحالفة الحظوظ أو لأنّ الناس أحسنوا به الظنّ، فإنّ أوّل ما يستهل به سلسلة نقائصه وسفالاته هو التخلّص من أصدقائه ورفاقه، ليس فقط لأنهم نقطة ضعفه الحرجة، القادرة على كشف عاديّته (كونه عاديًّا) فضلًا عن تفاهته لنفسه وللآخرين، بل لأنهم يحرمونه من الركون إلى تحقق ميزتيّ الاستغناء والتفوق الطموحتين. وإنْ لم يحالفه الحظ أو خانته الصدف أو ارتكب خطأ ولم يصبح زعيمًا عامًا أو هنا أو هناك، فإنه سيكتفي بالحسد والحقد والنميمة والخضوع المهين لأقرب طاغية متوفّر.
طاغية أفلاطون هو شخص مضطرب، طموح، فيه سمة دنيئة أصيلة، جائر، شعبويّ، ديماغوجيّ، يظهر في فترات الضياع والقلاقل الاجتماعية والاقتصادية لأن يستغل حاجة الجموع "لقائد"، يتقرّب منهم في بداية الأمر ويصعد على حسابهم، ثم يجمع حوله طغمة (طغاة صغار أو تابعين) من المنتفعين والمتسلقين، ثم يكشف عن روح الذئب ويطلق لرغباته الخاصة والمنحطّة العنان. الطاغية وفق سياق إغريقيّ محدّد هو صناعة شعبه الرديئة والمناهضة لأنماط الحكم الأكثر رشدًا، فوفقًا لتوصيف أرسطو وأفلاطون للأنطمة السياسيّة، تمّ تصوّر الديمقراطيّة على هيئة الفوضويّة، حيث تتيح لضعفاء العقول وقليلي الحكمة تعريض الصالح العام للخطر، ولا شكّ عندهما أنّ الأنماط المسرفة من الديمقراطيّة حالة ما قبل طغيانيّة، حيث تنتج "استبداد العامّة"، قل الدهماء. وبالنسبة لأرسطو فإنّ كلًّا من حكم الملك الصالح أو القلّة الفاضلة أو الأغلبيّة المنضبطة هي الأنواع الصالحة الخادمة للصالح العام، في حين تقع الديمقراطيّة (الديماغوجيّة أو الفوضويّة كما تخيلوها) مع حكم القلّة وحكم الطغاة في صنف الأنظمة الفاسدة الخائنة أو المقصرة بدرجات مختلفة لجهة الصالح العام.
أطلق أباطرة البيزنطيون مفردة المستبد على أولادهم وأحفادهم كلقب شرف عند تعيينهم على المقاطعات، ثم جرى استخدامها لاحقًا ككلمة مغايرة عن الطغيان. |
وأمّا طاغية ميكافيللي، وهو عمليًا طاغية مستنير أو مستبد عادل أو ملك صالح، يجب أن يتمتع بالذكاء والدهاء والحنكة والقسوة، ويمكنه أنْ يسوغ لنفسه كل الأدوات العاديّة والدنيئة لتعزيز حكمه وسلطانه، بما فيه الاغتيال والغدر. وهو طاغية "ضروريّ" لإنقاذ الحشود من فوضويتها وأهليتها وبلادتها، وعليه أن يعمل معها بما لديه من صفات فطرية وموروثة ومكتسبة لتعزيز حكمه جنبًا إلى جنب مع تحقيق نهضة ورفاه رعيته. وهو طاغية شعبويّ، لأن ميكافيللي كان يمقت الطبقة المرموقة، وكان ينصح طاغيته إلى جانب تلك النصائح الوقحة والفجة، بأن يلتحم بالجماهير.
يجب الانتباه إلى أنّ مفردات الملك أو الحاكم والطاغية والمستبد والدكتاتور أخذت في تطوّرها معان مختلفة أو متداخلة في تطوّر مدلولاتها اللغويّة والاصطلاحيّة. وكما ذُكر آنفًا، فإنّ الطغيان في القرآن أحال إلى الإسراف والإفراط والظلم والجور والفساد والإفساد وحتى "الكفر" و"التألّه"، وذلك ثمّة حذر في الإشارة إلى شخص بأنّه طاغية، لأنّ من معانيها ما هو كذلك. في حين أطلقت المفردة أوّلًا عند الإغريق كلقب تفخيم للملك أو الحاكم، ثم ظهر تمايزههما، حتى كان وضوح أفلاطون وأرسطو بالتفريق بين الملك والطاغية. وأمّا المستبد فقد أطلقها أباطرة البيزنطيّين على أولادهم وأحفادهم كلقب شرف عند تعيينهم على المقاطعات، ثم جرى استخدامها لاحقًا ككلمة مغايرة عن الطغيان، حيث فرّق ميكافللي بين نظام ملكيّ أوروبيّ ونظام عثمانيّ، أي بين مستبد وطاغية.
في سياق نظرة شبه ثابتة منذ أرسطو باعتبار الطغيان سمة شرقيّة، كان مونتيسكو قد ميّز في القرن الثامن عشر بين نظام طغياني وجمهوريّ وملكيّ، وقرر كما غيره أن الطغيان شرقيّ أصولًا الأمر الذي رفضه فولتيير، وفي السياق استهلكت مقولة "الطغيان الشرقيّ" في بعدها الماهويّ الانتقاصيّ البغيض عددًا لا يحصى من العقول، فقدّمت لبحوث اقتصاديّة واجتماعيّة متحيّزة مسبقًا أو يتّم توظيفها توظيفًا متحيّزًا لإجراء تفضيلات بنيويّة وماهويّة مكروهة، ولعلّ من أشهرها مقولة الاستبداد المائيّ أو الانتاج الآسيويّ.
أما الديكتاتور فهو الآخر بدأ كتوصيف "دستوريّ" في الجمهوريّة لحاكم يعيّن لأجل محدد ويتمتع بصلاحيّات استثنائيّة في ظروف القلاقل والاضطرابات. ثمّ استخدمت على نحو مقارب للمستبد لوصف شخص واحد يحتكر جميع السلطات، وثمّ تم توصيف دكتاتوريّة قائمة على شخص ودكتاتوريّة قائمة على طغمة، وحتى دكتاتوريّة الجموع، مثل دكتاتوريّة البروليتاريا حسب ماركس. وقد يستولي الدكتاتور على مقاليد السلطة بداية كأمر واقع أو كسوء استغلال لصلاحيّات دستوريّة في سياق ما.
وللتدوينة بقيّة سأواصل فيها الإشارة إلى بعض مصادر الطاغية، في محاولة تتقصّد إظهار التناقضات والصفات الخافتة في الأفراد والمجموعات والتي تقدح لصعود طاغية آخر عند كلّ مفصل وحركة.