شعار قسم مدونات

صديقي.. "كُلْ نَفسَك"!

blogs-people
على قدر ما يذكرني كتاب عبد الوهاب مطاوع "صديقي لا تأكل نفسك" وأمثاله بالزمن الجميل الذي كنا نتخيل فيه الأشياء من خلال الكتب، ونسير بأحلامنا متأملين العالم من شبابيك السيارات دون منغصات التكنولوجيا والحداثة التي أفسدت صفاء الأذهان وشتّتت الأوقات، إلا أنني ما زلت أعيد قراءة المقالة تلك والتي حمل الكتاب عنوانها وما يزال معناها يعايشني كل فترة وأخرى.

في عام 1989 كتب عبد الوهاب مطاوع مقالته "صديقي لا تأكل نفسك" من ضمن مقالات أخرى في الكتاب تشرح تجاربه الشخصية وقراءاته الواسعة، وقال إن عبارة "تأكل نفسك" هي مصطلح انجليزي يستخدم لوصف حالة المهموم أو المكتئب، وشرح معناها وسرد الأمثلة راجياً القراء في النهاية أن يهتموا بصحتهم النفسية أكثر وأن يزيلوا الهموم عن قلوبهم وأن لا "يأكلوا أنفسهم".

إنهم يأكلون أنفسهم دون أن يدروا وهم ربما لا يريدون أن يعرفوا، يسابقون الزمن من أجل كسب المال حتى لو كان شحيحاً ليصرفوه في اليوم التالي.

وقد ذكر أن المصطلح هو وصف لحالة جسمية قد تسبب فعلاً أن يقوم الجسد بأكل نفسه بسبب الضغط والاكتئاب فيصبح مريضا بالسكري أو بضغط الدم والقلب وقرحة المعدة وأمراض أخرى متعددة.

ولا أدري لماذا كلما قرأت المقالة عاد بي التفكير إلى ذلك الوثائقي القديم المخيف الذي يتحدث عن حالات وُجد فيها أشخاصٌ محترقين في ظروف غامضة وهم وحيدون في بيوتهم، ليتبين في تحقيقات أن أجسادهم اشتعلت وحدها لأسباب غير معروفة، وأن هؤلاء كانوا يعيشون في حالات كآبة أو يعانون من أمراض نفسية أو أنهم كبار سنّ وحيدون.

اليوم صرت أرى ناس كثيرة تأكل نفسها دون تفكير، تلتهم نفسها يومياً كشطائر البرغر الجاهزة وحبات البطاطا المرافقة بيسر وبسرعة وبنَهَم. هؤلاء يُضيفون البهارات على أنفسهم حتى يحسّنوا من طعمها.. فتجدهم في أحسن صورهم وأجملها، وجوههم مطلية بالمكياج، شعورهم مصففة بالواكس ويرتدون ثياباً أنيقة من محلات مشهورة، وغالبية من يأكلون أنفسهم يركبون سيارات حديثة بأقساط بنكية شهرية.

إنهم يأكلون أنفسهم دون أن يدروا وهم ربما لا يريدون أن يعرفوا، يسابقون الزمن من أجل كسب المال حتى لو كان شحيحاً ليصرفوه في اليوم التالي، يغرقون في مقارنة أنفسهم بغيرهم، ويتكاسلون في بيوتهم حد الخمول، ثم يشغلون أبنائهم بأجهزة التكنولوجيا الذكية كي يغضوا الطرف عن عقولهم المأكولة جزئياً.

إنهم يخرجون بشكل شبه يوميّ الى المطاعم وهواتفهم تأكل أيديهم، يشربون النارجيلة\الأرجيلة\الشيشة يومياً كي يسدوا بدخانها المتكتّل الثقيل اتساع الفجوة في أجسادهم، هم فقط يصرفون الوقت فيما تعمل عقولهم على أكل أجسادهم.

في مقالته "صديقي لا تأكل نفسك" بدى عبد الوهاب مطاوع الكاتب الطيب متصالحاً مع الفكرة، فرآها متشكلة فقط في كمية الاكتئاب التي قد يعاني منها البشر، وقد رحل في عام 2004 دون أن يدري أن السنوات التالية قد ضاعفت من قدرة الناس على مهارة الاكتئاب وأكل الذات.

إننا نرى كثيرون يفعلون هذا بأشكال متعددة وبقدرات متفاوتة، بعضهم تأكله همومه وشكواه المستمرة فتقضي على همته ونشاطه، والبعض الآخر ينتظر جسده يتآكل رويداً رويداً وهو يتفرج على الآخرين دون قول أو عمل، وقليلون.. قليلون جداً من لا يأكلون أنفسهم في هذا العصر.

في الواقع لم تعد الفكرة جميلة كما كانت في المقالة عندما قرأتها أول مرة، اليوم صارت الفكرة تثير التوحش أكثر، وتضائل فيها التفاؤل لمستوى متدن، فالأزمات المالية تأكلنا، والحروب وتبعاتها من حولنا تأكلنا، والأخبار تأكل أدمغتنا، الحوادث والخوف من المستقبل والقلق من المجهول صارت بهارات أقوى من تلك التي نتناولها في الروتين اليومي لحياتنا.

صديقي، لا يستطيع أحد أن ينصحك بأن "لا تأكل نفسك"، فالأمر صعب في عصرنا الحالي، ولعلك تعمل بدلاً من ذلك بنصيحة أخصائي التغذية فتتبع حمية عن نفسك.. حمية ضد نفسك.. ضد جلدك الذاتي الدؤوب لها، حمية عن مقارنة حياتك وشركائك بحياة الآخرين وشركائهم.. ضد الكسل والتسويف والخمول والانكسار والتعالي والنمردة على الغير، ضد نبش المشاكل وبتر الحلول… ضد كل شيء ما زلت تقوم به يرغمك على أكلك لنفسك، حمية ضد تحميل روحك ما لا طاقة لها من رغبات لا طاقة لجيبك بها، حمية تحتمل فيها عيوب ذاتك فتعالج الثقوب المتآكلة والترهلات الصادمة فيها، فتحيا ربما من جديد بدون تآكل.

ولكن، إن كان الأمر بعد هذا ما يزال صعباً؛ مبدئياً.. "كُل نفسك" ولا تنسى إضافة البهارات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.