شعار قسم مدونات

زندقة

blogs- فلسطين

تسنى لي الأسبوع الماضي أن أشاهد فيلم "زنديق" للمخرج الفلسطيني ميشال خليفي هنا في إسطنبول، فيما كان الجدل يحتدم في بيروت حول منع فيلم "أمور شخصية" للمخرجة الفلسطينية مها حاج.

كان حدثاً لافتاً ويدعو إلى التفكير، بالنسبة لي على الأقل، أن أحظى بفرصة حضور فيلم عن الناصرة، لابن الناصرة خليفي أنجز في 2009، بالتزامن مع منع فيلم آخر، عن الناصرة أيضاً ولابنة الناصرة حاج أنجز في 2016.

رحت أفكر فيما لو كنت واحدة من الناشطين في حملات المقاطعة، هل كنت سأقاوم العرض في إسطنبول أو باريس أو لندن؟ أم هل كنت سأشاهد هنا ما أرفض عرضه هناك؟ وذلك على ما نعلم شائع جداً بذرائع كثيرة، فكم من "مقاطع" و"مقاطعة" يطلعون على الإنتاج الثقافي الإسرائيلي (المحض) بكافة أشكاله، ثم يقيمون القيامة إذا ما بادر أحدهم لترجمة كتاب إلى العربية أو عرض فيلم أو مسرحية لفلسطينيين من حملة الجوازات الاسرائيلية؟

حملوا مفاتيح بيوتهم وهربوا، ثم علقوها في غرفهم أملاً بالعودة، فإذا بها تحال إلى "تحف" ومعروضات نادرة في احتفاليات عامة أو صالونات خاصة.

لا أريد مناقشة الازدواجية في الخيارات والمعايير، وهي كثيرة، ولا يعنيني الخوض في تداخل المواقف وانتقائيتها بحسب الأهواء والأمزجة، وهي باتت مملة، سيما وأنه منع في الوقت نفسه عرض فيلم إيراني وآخر سوري لا يمتان لإسرائيل بطبيعة الحال، لا لجهة التمويل ولا لجهة الأوراق وجوازات السفر، لكن اليوم، بات يكفي أن يكون المخرج معارضاً سياسياً للنظام في سورية أو إيران ليمنع عمله في لبنان، كيف نقبل برواية أخرى للأحداث؟ نمنعها ونرتاح.

المهم، خرجت من الصالة وأنا أفكر بالفيلمين معاً، وبالأسئلة التي يطرحانها ويحاولان الإجابة عليها، رحت أقرأ عن "أمور شخصية" ومعالجته لقضايا أزواج شباب في فلسطين اليوم، بالمقارنة مع أزواج أكبر سناً وانعكاس الأزمات السياسية عليهم كأفراد، إنها رواية ذاتية للنكبة عبر جيل عاصرها وجيل يضرس يومياً بحصرمها.

شاهدت "زنديق" وقرأت عن "أمور شخصية" قدر المتاح ولا زلت غير واثقة مما أعرفه أو أجهله عنه، لكني أعرف أن الفيلم الأول يقطع أنفاسنا في محاولة للإجابة على سؤال واحد جوهري هو "لماذا بقيتم؟" سؤال يوجهه البطل لأمه في لحظة استحضار لها، ويتركنا معلقين مع إجابات لا نجرؤ على البوح بها.

جميعنا يعلم لماذا رحل الفلسطينيون. لكن هل نعلم لماذا بقوا؟
نعرف لماذا حملوا مفاتيح بيوتهم وهربوا، ثم علقوها في غرفهم أملاً بالعودة، فإذا بها تحال إلى "تحف" ومعروضات نادرة في احتفاليات عامة أو صالونات خاصة، تلك المفاتيح التي كانت ذات يوم تفضي إلى دفء دار وحميمية غرف حولناها اليوم إلى مجرد "كليشيه"، ليس لأننا أشرار، بل لأننا، لشدة ما نعرف بتنا ننسى.

فتلك هي الرواية التي نطالعها في المراجع والكتب والمؤلفات وتطالعنا هي في نشرات الأخبار، والتقارير والافلام. انها الرواية الرسمية التي أردناها لفلسطين.

لكن ثمة رواية أخرى، روايات كثيرة غير متاحة لنا، ولا يرضى المقاطعون اتاحتها. بل إن من يحاول أن يقترب منها اليوم يجلب لنفسه تهمة التخوين والهرطقة، لماذا بقي من بقي؟ كيف كان بقاؤه؟ وما الاثمان التي دفعها؟

في "زنديق" ترك مفتاح الباب في حفرة غائرة في الحائط، هناك حيث مضى أهل الدار وبقي هو يحرس المكان، ويتيح الوصول إليه لمن يعرفه جيداً ويتذكر خباياه. يفتح الباب ولكنه لا يحمل اجابات.
ربما يجيب "أمور شخصية" على أسئلة "زنديق" بشكل أو بآخر، ربما يروي لنا كيف هي حياة من بقي، وكيف حل الصمت، مكان الضجيج. ذلك الصمت نفسه الذي تجيب به الوالدة حين يلح السؤال: لماذا بقيتم؟ أريد أن أعرف.

بين رواية رسمية  لـ "القضية"، وأخرى شخصية يسهل اتهامها بالزندقة، يعيد فلسطينيون كثراً اليوم تلاوة حياتهم من داخلها، وينبشون ماضيهم القديم والقريب.

نحن أيضا نريد أن نعرف، لعل الثمن الأغلى والأقسى الذي فرض على فلسطينيين لم يغادروا بيوتهم آنذاك ولم يحملوا مفاتيحها، هو انفضاض الدائرة الداعمة من حولهم، فلسطينياً وعربياً، هو ذلك التشرذم الذي أصاب العائلة في صميم "أمورها الشخصية"، هو اتهامهم بالتطبيع مع عدوهم، والوقوع في حب سجانهم، وعملياً تخوينهم. هو التأرجح الفلسطيني الدائم بين الناصرة (الداخل/ العزلة/ القبول) ورام الله (العاصمة/ السياسة/ الرفض).

أما نحن، فلم نفعل إلا أن أمعنا في العزل والابتعاد ووقف التواصل حتى ثقافياً وفكرياً.. وعندما يتاح تمويل "وطني" لمشروع ثقافي، يمنع عن تلك الفئة من الفلسطينيين ثم تتم محاكمتهم لقبولهم تمويلات من مصدر وحيد متاح لهم، نريدهم، سجناء يرفضون طعاماً يمدهم بهم السجان، ونريدهم معتقلين نرفض حتى زيارتهم.
 

وبين رواية رسمية لـ "القضية"، وأخرى شخصية يسهل اتهامها بالزندقة، يعيد فلسطينيون كثراً اليوم تلاوة حياتهم من داخلها، وينبشون ماضيهم القديم والقريب، ويحاسبون الأجيال السابقة على خياراتها، ويعيدون النظر بالمسلمات شأنهم في ذلك شأن أي شعب تعرض لما تعرضوا له.
تلك روايتهم، وليس لأحد الحق، أي حق، بمنعهم من البوح بها

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.