شعار قسم مدونات

سقوط المثقفين في الانتخابات الأردنية

blogs - jordan
ترشح عشرات المثقفين في الانتخابات النيابية الأخيرة في الأردن، التي أُجريت في العشرين من شهر أيلول الماضي، وشهِدت سقوطاً مدوياً لهم، إذْ لم ينجح إلا عدد محدود جداً، لأسباب لا علاقة لها بالثقافة بمفهومها المُتعارف عليه. الأمر المفاجئ أنَّ الاصوات التي حصلوا عليها كانت مُتدنية، وبعضها كان صادماً إذ لم يتعدَّ بضع مئات.

المُحزن في الأمر أنَّ المثقف يتوهم أنَّ له حُضوراً وشعبيةً عارمة في أوساط المواطنين، ومقياسه لذلك عدد الإعجابات أو الردود على منشوراته في مواقع التواصل الاجتماعي، أو عدد الحضور لإحدى محاضراته أو أمسياته الثقافية.

العوامل المسؤولة عن سقوط المثقفين كثيرة، أهمها ما يتعلق بالقانون الانتخابي الذي لا يسمح إلا بفوز مرشح واحد لكل قائمة انتخابية.

المواطن الأردني لم يخدع المثقفين المرشحين، ولكنه بطبعه لا يَكْسِرُ خاطراً، ويستقبل الجميع ببشاشة، ويَعِدُ كل مرشح بالخير "أبشر" أو "عَيِّن خير" أو "لعيناك" أو "أبشر بالفزعة" أو "غالي والطلب رخيص" وغير ذلك من عبارات المجاملة المُتعارف عليها في المجتمع، ويُدرك الجميع أنها عبارات لا يترتب عليها شيء، ولا يُمكن أن يَرْكُنُ إليها عاقل، ويتحمل المثقف المرشح تبعة بناء قصور أحلامه على هذه المجاملات، التي تُصرف لكل عابر سبيل دون أن يكون لها رصيد على أرض الواقع.

صحيح أنَّ المواطن الأردني واعٍ، وهو جزء من هذه الأمة التي لها قضاياها وآمالها مثل تحرير فلسطين، وقضية الحرية، والعدالة الاجتماعية، ورفع الظلم، ونظام سياسي متقدم، ولكنه مُواطن واقعي وغير مؤدلج في معظمه، يُدرك حجم المُتاح، والمساحة التي يُمكن أن يتحرك بها النائب. ولذا فهو يريد نائباً يخدمه ويرعى مصالحه، ويكون قادراً على تحقيق أحلامه البسيطة مثل تعبيد شارع، أو توظيف ابن في شركة أو بلدية، أو التوسط من أجل رخصة محل أو باص أو تأمين صحي، وغير ذلك من الخدمات الحياتية التي تمس حياته بشكل مباشر.

المثقفون -في معظمهم- لا يملكون المال ولا السلطة ولا شبكة العلاقات الواسعة التي تؤهلهم لخدمة المواطنين. نعم، المواطن يثق في أمانتهم وإخلاصهم وصدقهم ونظافة يديهم ورجاحة عقولهم، لكنه لا يثق في قدراتهم وإمكاناتهم في خدمته كما يفعل الآخرون. ولذا يبقى المثقف خياراً قلبياً لا عقلياً، وعند الصندوق يقرر العقل لا القلب.

الثقافة في العالم الثالث عملة غير متداولة إلا على نطاق ضيق، لا يتعامل بها المواطن العربي، فهي عملة صعبة الصرف، وربما يترتب على حملها مسؤولية ومحاسبة. وفي وجود عملات أخرى كثيرة يمكن صرفها من أي مكان، وفي أي وقت، غنى للمواطن البسيط الذي يبحث عن قوت يومه!

العوامل المسؤولة عن سقوط المثقفين كثيرة، أهمها ما يتعلق بالقانون الانتخابي الذي لا يسمح إلا بفوز مرشح واحد لكل قائمة انتخابية، وهو غالباً المرشح الممتلئ أو المُجرب. والعامل الثاني: عدم رغبة السلطة بوصول المثقفين لأنهم يسببون الصداع، ولا يعرفون لغة السياسة، ولا يؤمنون بالواقعية إلا في الأدب!

والعامل الثالث الرئيس هو أن المثقف –في الغالب- يعيش في برج عاجي، أو يعيش منزوياً عن المواطنين، لا يختلط بهم، ولا يتحسس مشاكلهم، ولا يبادر للتخفيف عن همومهم ومساعدتهم. مبدع في التنظير، فقير في العمل. والناس بحاجة إلى فعَّالين لا إلى قوَّالين. الشعارات لا تطعم خبزاً، والوعود دون أساس متين لا محل لها من الإعراب، والأحلام الكبيرة لن تجلب إلا التندر والسخرية!

في ظل الظروف الحالية، وغياب منظومة العدالة الاجتماعية، وفقدان الأمل بإصلاح حقيقي، فإنَّ فرصة وصول المثقف إلى مجلس النواب شبه معدومة، ما لم يكن مدعوماً حزبياً أو عشائرياً. ولعل هذا أفضل للمثقف، فهو –إن فاز- فلن يستطيع أن يحتفظ بقيمه وأخلاقياته ومبادئه ومُثُلِهِ العُليا، فلا بُدَّ أن يتلوث ويتنازل، ويتعلم ألاعيب السياسة وقذاراتها ودروبها المظلمة، وهو بذلك قد يكسب شيئاً، ولكنه بالتأكيد يخسر نفسه، ويخسر بالتالي محبيه الذين كانوا يرونه مثالاً وأنموذجاً.

المثقفون حقيقة لم يسقطوا، وإنما لم يُسمح لهم بالصعود إلى حافلة ملوثة، تسير بغير هدى، لا يدري أحد أين مستقرها!

المثقف النائب، لن يستطيع أن يُحدث تغييراً يُذكر، وليس بإمكانه أن يُصلح شيئاً، ولن يخرج من الدائرة المرسومة له ولو حاول، فأصول اللعبة الديمقراطية في العالم الثالث تفرض على اللاعبين أن يلتزموا بقواعد اللعبة واللعب في الميدان المحدد سلفاً، ضمن السقف المطلوب، وأي خروج عن القواعد، له تبعات وخيمة، أقلها الطرد من الملعب!

أيها المثقفون.. مكانكم بين المواطنين لا فوقهم، احرصوا على نظافتكم وأخلاقكم بعيداً عن موبقات السياسة ودهاليزها. لا يمكنكم أن تجمعوا بين الثقافة والنيابة، واعلموا أن كل نائب وسياسي يتمنى أن يكون مثقفاً، ولكن قلة من المثقفين يتمنون أن يكونوا نواباً أو سياسيين، السياسي يخاف المثقف، ولكن المثقف الحقيقي لا يخاف السياسي. فلا تبخسوا أنفسكم، وتتهاووا إلى الدرك الأسفل، ولا تستبدلوا الذي أدنى بالذي هو خير.

انظروا إلى المثقفين الذين تلوثوا بالنيابة والسياسة،ماذا كسبوا، وكم خسروا؟ واعتبروا يا أولي الأبصار.

المثقفون حقيقة لم يسقطوا، وإنما لم يُسمح لهم بالصعود إلى حافلة ملوثة، تسير بغير هدى، لا يدري أحد أين مستقرها!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.