شعار قسم مدونات

نقد الثورة

blogs - revolution
الثورات فعل ينتمي لإرادات الشعوب، ونقلات صغيرة على رقعة التاريخ العملاقة، هي لا تمتلك عصا سحرية بقدر ماهي أداة حادة وعنيفة أحياناً؛ لتحريك دولاب التاريخ العالق في وحل الحكام المستبدين.

تقديس الثورات وتحويلها من وسائل إلى غايات، هي الوصفة السحرية التي يستخدمها قراصنة الثورات لإخراس خصومهم، والانحراف بمسار أحلام الشعوب.

لم تحقق أي ثورة في العالم الأهداف التي رسمتها بقدر ما أحدثت علامة فارقة وحيدة ربما، في ظل تربص العديد من النخب السياسية التي تسعى لتحويل تلك الثورات إلى عصا غليظة، ووسيلة لتحقيق المكاسب السياسية التي لا تنتمي بدورها لإرادات الشعوب الثائرة، الطامحة، والمتطلعة للتغيير. فـ"الثورة لا تنتمي أبداً لمن يفجر شرارتها، وإنما دائماً لآخر من يأتي ويسحبها إليه كالغنيمة" كما يقول الكاتب النمساوي ستيفان زويغ.

وتقديس الثورات وتحويلها من وسائل إلى غايات، هي الوصفة السحرية التي يستخدمها قراصنة الثورات لإخراس خصومهم، والانحراف بمسار أحلام الشعوب. ذلك ما فعله ماوتسي تونج باسم "الثورة الثقافية" في الصين، وما أقدم عليه ستالين عقب الثورة البلشفية، حيث صفى رفاقه أصحاب التساؤلات الكثيرة، بينما أتت الثورة الفرنسية التي تعد نبراس الثورات عبر التاريخ الحديث بروبسبير ظن، الذي امتطى صهوتها كفارس غير شريف في المرحلة الأولى من تلك الثورة؛ ليصفي حساباته الجامحة، ويطيح برؤوس خصومه السياسيين، متبجحاً بعبارته الشهيرة "لم ولن أخطئ إطلاقاً" و"ما من بريء واحد".

وباستخدام قانون (التشكيك) الذي ابتكره، والذي ينص على أنه يمكن إعدام الأشخاص بسبب تصرفاتهم، علاقاتهم، كلماتهم، كتاباتهم، أو ممن يطرحون أنفسهم على أنهم مناصرون للطغيان، وخلال شهر ونصف فقط من صدور هذا القانون، سيق ستة آلاف فرنسي إلى تحت "المقصلة". قال الفرنسيون حينها: ليست تلك الثورة التي كنا نبحث عنها فأطاحت إرادة الثورة الحقيقية برأس "روبسبير" قبل أن تواصل مسيرتها الشاقة، التي شهدت صراعات لا تنتهي بين نخبها المتناحرة، غير أن الثورة "ظلت مستمرة" تحاول تصحيح مسارها المتعثر، والتخلص من الكثير من مثالبها التي صنعها بعض قادتها، الذين جسدوا مقولة الصحافي الفرنسي فيليب بوفار: "الثورات لا تلغي الامتيازات، بل تكتفي بتغيير من يتمتعون بها".

من يسرقون الثورات يخفون وجوههم الحقيقية خلف الشعارات اللامعة؛ حتى لا تصبح تجاوزاتهم عرضة للنقاش، ويضفون الطابع المقدس الشهير على أعمالهم التي يُلبسونها عباءة الثورة الزاهية.

ليست هناك ثورات كاملة بالطبع، ولو كانت هناك ثورات كاملة لما شهدت الشعوب عبر تاريخها العشرات منها. فالثورة قد تغير المسار الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي المتعثر، وتسن القوانين، ولكنها غير معنية بإحداث التغييرات العميقة، والحقيقة تحتاج إلى عقود وإلى تغيير في البنية التي تصنع الفقر والتخلف. فليست الثورة إلا القداحة التي قد تشعل جذوة ذلك التغيير، كما هو حال الثورة الفرنسية التي استمرت عقداً من الزمان ومرت بثلاث مراحل، ولكنها كانت قد زرعت البذرة الأولى للفصل بين السلطات، وفصل الدين عن الدولة، والمساواة، وحرية التعبير، ومهدت للنظام الرأسمالي، وتحرير الاقتصاد، والعدالة الاجتماعية، كما أطاحت الثورة البلشفية بالفوارق الطبقية الرهيبة، وحولت الأغنياء إلى فقراء كذلك.

إنها حلقة رهيبة في مواجهة الظلم لا تنتهي، هكذا يحدثنا التاريخ، ومن يسرقون الثورات يخفون وجوههم الحقيقية خلف الشعارات اللامعة؛ حتى لا تصبح تجاوزاتهم عرضة للنقاش، ويضفون الطابع المقدس الشهير على أعمالهم التي يُلبسونها عباءة الثورة الزاهية. الثورات فعل بشري يتمرد على "التابوهات" لذلك يجب ألا تتحول إلى "تابو" آخر غير قابل للنقد، إنها فعل بشري جامح، لذلك هي أحوج ما تكون للنقد والمراجعة، حتى لا تطيح بصنم لتأتي بآخر بتكلفة باهظة يدفعها الشعب، فأي نفع يرتجي الشعب إذا مات فرعون لتبقى الفرعنة! بحسب الشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني.

لقد سعى الطغاة عبر العالم لتحصين أنفسهم من المساءلة، عبر اختلاق قوانين وأنظمة تقمع الحرية باسم حماية الحرية. غير أنه في الأخير "ما تحتاجه الثورات ليس الأبطال، وإنما موظفون من فولاذ". كما يقول آرتير كويستلر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.