شعار قسم مدونات

عن الأمل في عرب الداخل

blogs - palestine

قامت إسرائيل منذ فترة بحملة اعتقالات في صفوف التجمع الوطني الديمقراطي، وهو أحد أهم الأحزاب القومية العربية في فلسطين المحتلة عام 1948. لم تستحوذ الحملة على اهتمام وسائل الإعلام العربية في ظل انهماك الأمة باقتتالها الطائفي سنة وشيعة، وسقوط مئات الآلاف من الشهداء والقتلى والجرحى، ولجوء الملايين إلى ما وراء البحر، وتشرد ملايين آخرين داخل بلادهم. إلا أنني أزعم أن فلسطينيي الداخل لديهم الكثير ليقدموه على طريق توحيد هذه الأمة بعد افتراقها ورأب صدوعها بعد تفاقمها.

إن الفلسطينيين عموماً أقل أهل المشرق تأثراً بالانقسام الطائفي، والفلسطينيون في الداخل، أي ما وراء الخط الأخضر، هم أقل الفلسطينيين تأثراً بالانقسام السياسي بين فتح وحماس. وعليه فإنهم يكادون يكونون الجبهة العربية الأخيرة الموحدة ضد إسرائيل.

حتمال اندلاع مواجهة عنيفة يطالب فيها كل العرب القاطنين بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط بحقوقهم يزداد كل ساعة، مع كل طفل فلسطيني يولد.

ولما كان الصراع بين العرب وإسرائيل ممكناً فيه النصر، مثلما كان النصر ممكناَ في كل الصراعات السابقة في آسيا وأفريقيا بين الاستعمار وأهل البلاد، ولما كان الصراع بين الطوائف مستحيلاً فيه النصر، كما كان النصر مستحيلاً في كل الصراعات الطائفية السابقة في تاريخ هذه الأمة، فإن قيمة عرب فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨ تزداد، وقدرتهم على أن يرشدوا هذه الأمة للخروج من أزمتها تزداد أيضاً.

ولهذا السبب تُضيق إسرائيل الخناق عليهم جميعاً. فالمضايقات التي تعرض لها التجمع الوطني الديمقراطي ليست جديدة عليه ولا على الأحزاب والجماعات العربية ما وراء الخط الأخضر كافة. فقد نال الحركة الإسلامية منه ما نالها، وما كان يلحق بالشيوعيين تاريخيا من عسف شكل الوعي الجمعي للفلسطينيين في النثر والشعر لعقود. وإن إسرائيل حين تلاحق الفلسطينيين في الداخل لا تفرق بين قومي عربي وشيوعي وإسلامي، فهي ترى أن كل الوجود العربي في الداخل تهديد لها.

والفلسطينيون ليسوا خطراً على المشروع الصهيوني بسبب توحدهم فحسب، بل هم خطر عليه لمجرد كونهم يتنفسون. فمن الناحية الديمغرافية، يبلغ عدد العرب في ما يسمى بإسرائيل، بدون حساب الضفة الغربية وغزة، اثنين وعشرين بالمائة من إجمالي عدد السكان. وهم يزدادون بضعف معدل زيادة السكان اليهود.
 

فإذا استمرت الحال هكذا، لن تمر عدة عقود، قبل أن يكون مواطنو إسرائيل من غير اليهود أكثر من مواطنيها اليهود، ما يهدد كونها دولة يهودية، ويهدد نظام الحكم الصهيوني فيها، ويجعل من الممكن، نظرياً، انتخاب حكومة تلغي قانون العودة اليهودي، والذي يسمح لأي يهودي بأن يكون مواطناً في إسرائيل لمجرد كونه يهودياً، ويحرم الفلسطينيين من العودة إلى بلادهم لمجرد كونهم غير يهود.

بل إن السكان العرب في فلسطين التاريخية كلها، أي في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس شرقيها وغربيها وفيما يسمى بإسرائيل، يزيدون على السكان اليهود، بمائة ألف نسمة أو أكثر، في وقت كتابة هذه السطور. ومعنى ذلك، أن إسرائيل، إذا أصرت على استمرار احتلالها للضفة الغربية وغزة، ستواجه مأزق الأغلبية السكانية العربية اليوم لا غداً، وأن احتمال اندلاع مواجهة عنيفة يطالب فيها كل العرب القاطنين بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط بحقوقهم يزداد كل ساعة، مع كل طفل فلسطيني يولد، ومع كل قصيدة شعر أو أغنية يحفظها وكل رواية أو قصة قصيرة يطالعها عن تاريخ فلسطين الحديث.
 

وإذا استمرت معدلات النمو السكاني على حالها، فإن من المتوقع أن يزيد عدد العرب عن عدد اليهود في فلسطين التاريخية كلها بمليون وسبعمائة وخمسين ألف نسمة، أو حتى بمليونين، بحلول عام ٢٠٣٠.

وليس أمام إسرائيل من طريق لمعادلة هذه الزيادة السكانية. ذلك لأن معدل الزيادة الطبيعية في المجتمع اليهودي الإسرائيلي ضئيلة كغيره من المجتمعات الغربية الثرية. فالتكلفة الحدية لتربية طفل من الطبقة الوسطى أو الطبقة الوسطى العليا في بيئة حضرية، أكبر بكثير من تكلفة تربية الطفل في بيئة ريفية أو شبه ريفية. والأطفال في المجتمعات الغنية ليسوا ضماناً اجتماعياً لأهلهم في الكِبَر، بل الدولة هي التي توفر ذلك الضمان.

إن الزيادة الديمغرافية، والتوحد ضد الصهيونية، ميزتان استراتيجيتان لدى الفلسطينيين يجب أن يحافظوا عليهما، وأن تحافظ عليهما الأمة.

كما أن عمل المرأة، والحريات الاجتماعية للجنسين، تجعل إنجاب الكثير من الأطفال عبئاً وقيداً على الحرية العاطفية والتقدم الوظيفي. وعليه فإن المجتمعات الغنية الحضرية ذات الثقافة الغربية، في الغالب، أقل إنجاباً من المجتمعات الأقل دخلاً، والقاطنة في الحواضن الريفية، أو شبه الريفية، ذات الثقافات المحافظة، حيث الإنجاب هدف، والأطفال سند في الكِبَر، والمرء يلقب بأولاده، فكأنه لا يكتمل بلوغه إلا إذا قيل له يا أبا فلان، والفتى إن أراد أن يمدح صاحبه ناداه يا أبا الشباب تفاؤلاَ.

أما زيادة أعداد الإسرائيليين اليهود من باب الهجرة إلى إسرائيل فمتعذر أيضاً. لأن نصف يهود العالم تقريباً قد هاجروا بالفعل إلى إسرائيل، والنصف الآخر، لا يواجهون خطراً اقتصادياً أو سياسياً كالذي كانوا يواجهونه في القرن الماضي، بل هم أحسن حالاً في بلدانهم من إسرائيل. ولذا فإن أي كلام أو فعل معاد لليهود غير الصهاينة، المقيمين خارج إسرائيل، والذين لم يحتلوا أرضاً عربية قط ولا أعانوا على احتلالها، هو ضار استراتيجياً بالقضية الفلسطينية بالإضافة إلى كونه مداناً أخلاقياً.

إن الزيادة الديمغرافية، والتوحد ضد الصهيونية، ميزتان استراتيجيتان لدى الفلسطينيين يجب أن يحافظوا عليهما، وأن تحافظ عليهما الأمة. ولا يجب أن تبخل هذه الأمة بانتباهها ثم بدعمها لهؤلاء المتروكين تحت حكم الغزاة في فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨. نعم إن أوضاعهم ربما تكون أخف وطأة من أوضاع إخوتهم في الهلال الخصيب، والوجع العراقي والسوري واليمني قد يكون أفدح والنزيف أغزر، لكن هؤلاء المتروكين ربما يكونون جزءاً من الترياق لهذه الجروح الكبرى في العراق والشام واليمن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.