شعار قسم مدونات

خُن القضية قبل أن تخونك

blogs - man

أتعرف تلك الفتاة الساذجة التي عرفتها والبثور تملأ وجهها، فكرها المشوه بتلك المراهقة البلهاء، ويزيد الطين أصدقاءها بِلة، وتتحول على يديك وبدعمك ومساندتك إلى ما يشبه أميرة فارِس جمالاً، وكليوبترا حكمة وسلطة، وفجأة تبات أنت النكرة، وهي الملكة.
 

أتذكر ذلك العجوز المتصابي الذي يقفز على الشرفات باحثاً عن نظرة أورنوة، لتلك الجارة الواردة بالأمس للحي، أو الأخرى التي تفتحت أزهارها حديثاً، وكيف وقفت بوجهه ليناً وشدةً، حتى تاب ولفظ ما يسوؤك وتحول لمُحرِّمٍ ومُحلِّلٍ، وأول ما يفتي به هو تكفيرك ورميك في سلة المرميين في النار. لا بأس بأن أنعش ذاكرتك، بذلك الطفل الميوع البّكاء، كيف ربيته وربت على كتفه ليشتد عوده، يأخذ ناصية الدراسة ويرتقي سلم العمل ويصبح مديرك، ليكون قراره الحاسم الأساس في منطلق السلطة، هو قرار فصلك.
 

إنها الخائنة لذاتها، لوجودها ولمكانها، قائمة على الأشقياء وأرواح النبلاء، إنها الوائد لنفسها، والمنهية لوجودها، مُشِرعة الأبواب أمام القضية التي ستحل محلها، وحتى الأخيرة ستخون حتماً، فالقضية خوانة حتى لذاتها.

"القضية" هي تلك الفتاة "المُتملكة" وذات العجوز "المُتشيّخ"، وذاتهما الشاب "الُمترأس"، تقدم لها كل ما أؤتيت قوة وجلداً، جهداً وفكراً، عِلماً وعَملاً، وفي اللحظة المناسبة تجد نفسك تفترش الأرض على أسوارها، تنتظر ظهور المالك الجديد لها، ولكنه ليس مؤسساً أو عاملاً أو ممارساً فيها أو لها، وكل ما هنالك أنه مُنح القدرة على ركوب الأمواج، واعتلاء صحوات الفساد، وبات مارداً قادراً على الاحتواء والتلّون والاختفاء في وجوه من يريد ومتى يريد.
 

القضية في حد ذاتها "خوّانة" لحاملها، يحملها الأشقياء ويضحي لأجلها النبلاء، ويموت على أعتابها الأشراف، وتمر على المتقلبين في نارها، لتحط في نهاية المطاف في حضن عابث ليلٍ أو حامل كلمات السر، والولوج لعقلها المبرمج بـ"الخيانة"، ولا حل معها بالوفاء أو باللين، وإنما مفتاح الخيانة خيانة مثلها، ونهاية الخيانة تكون بخيانة تمثِّلها.

وكما اعتادت القضية الخيانة، فمارس عليها الخيانة، فاشتمها في غيابها، أوقف تمددها بأحشائك، واتخذ مواضع الشك والريبة مع كل همسة أو حرف، وحتى عندما تبادلك الحب فبادلها الكره، وتحضّر لساعة الخيانة، حينها ستجد نفسك جالس مع الجالسين في مقهى مليء بالنبيذ، تغيب فيه عن الواقع، وتُحيّ "القضية" في اللاشعور، تمجد القائد الوافد لها.
 

إنها الخائنة لذاتها، لوجودها ولمكانها، قائمة على الأشقياء وأرواح النبلاء، ودماء الأشراف، وجروح المتابعين، إنها الوائد لنفسها، والمنهية لوجودها، مُشِرعة الأبواب أمام "القضية" التي ستحل محلها، وحتى الأخيرة ستخون حتماً، فالقضية خوّانة حتى لذاتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.