شعار قسم مدونات

سارة في بلاد العجائب

blogs-أطفال

أخرج من جيبه عشرين جنيهاً، أعطاها لها مقابل علبة الحلوى التي يبلغ ثمنها عشرة جنيهات، وقال شفقةً بحالها "احتفظي بالباقي لكِ"، أعادت له الباقي فحاول التمنّع عن أخده إلا أنها أصرّت، وقالت له سارة -الفتاة ذات العشرة أعوام- "أنا لا أتسوّلُ الصدقات".
 

وفي مرة أخرى، كنتُ أجلس في المقهى ذاته حين دخلت سارة بعد أن استأذنت العامل الذي صار يألفُ وجودها، وتوجّت نحو الطاولات تباعاً تعرضُ ما في جعبتها من أطباق الحلوى منزليّة الصنع أعدّتها والدتها التي لاحظتُ وجودها خارج المقهى منتظرة ابنتها.
 

كان وجه سارة البريء يستعطف الناس ويدفعهم للشراء منها، وبينما كانت تتنقل بين الطاولات مثل نحلة تجني الرحيق في حقل من الأشواك، نادت عليها سيدةٌ -ألحّت عليها ابنتها شراء بعض الحلوى- فجاءت إليها سارة تركض بعد أنا أنهت بيع زبون سابق، ولكني لاحظتُ أنها لم تكن على طبيعتها المرحة بل بدت متوترة جداً، كانت نظرات الطفلة المشفقة تخنقها.
 

هي أوفرُ حظاً من سارة التي لم يمتلك والدها ما يسدّ جشع المهرّب فاختار البقاء عنوة ولم يختر وأسرته التحاف سقف المنزل والنوم إلى الأبد

لا أعرف ماذا كانت تقول في نفسها لا أعرف كيف كان شعورها؟!، كم خيبةُ أملٍ كم حسرةٍ وكم ندبة حظِّ كوّنت تلك النظرات فيها؟، أنهت تلك البيعة على عجلٍ وخرجت قبل أن تكمل باقي الطاولات. لم أكره الشفقة في حياتي مثلما فعلتُ في تلك اللحظة، مسكينةٌ أنتِ يا عزيزتي كيف كبرتِ؟! وكيف هرمت طفولتكِ؟! تباً للزمان الذي ألبسكِ عمراً أكبر من حجمكِ. لم يكن يخطر في بالي سوى الطفولة التي ضاعت، أقول في نفسي لو أنّ شيئاً لم يكن ربّما كانت سارة الآن عائدة إلى المنزل من مدرستها، أو ربّما كانت تلعبُ مع صديقاتها عند باب الدار.

ولكن يعتريني شعورٌ تفاؤليٌّ بأن حظّها أوفرُ من سارة أخرى لم تجد ملجأ تقصده سوى قاع البحر فقالت عاجزة "البحرُ أرحمُ من إخوتي يا أبي وكل بقاع الأرض بئر"، أو سارة حرمها صهريج الحدود نفساً ينعشُ رئتيها الجائعتين، فاستسلمت للصمت ولم تنبس ببنت شفة بعد أن همست "تعبتُ كثيراً يا أمي"، وبالتأكيد هي أوفرُ حظاً من سارة التي لم يمتلك والدها ما يسدّ جشع المهرّب فاختار البقاء عنوة ولم يختر وأسرته التحاف سقف المنزل والنوم إلى الأبد، كم هو مزعجٌ هذا الشعور الذي ينتابني ، هل يستحق أحد العناء لأن غيره يعاني أكثر؟

يخطرُ في بالي صوت أحمد قعبور"لينا كانت طفلة تصنع غدها.. لينا سقطت.. لكن دمها.. كان يغني" جرحٌ واحد يُدمي طفولتين سارة سوريا ولينا فلسطين، هذا اللجوء الذي لم نرتكب ذنباً لنعاقب به، لا نعرف كيف سرق منّا هويّتنا، ذاكرتنا، أحلامنا وارتباطنا، كيف اجتثنا من جذورنا وألقى بنا نحو اللاشيء، والآن آآآآه.. الآن علينا البحث عن الحياة أو ما يشبهها هنا في كل هذا الموت.
 

ماذا عن اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، بعد أن قضى جيلهم الأول حياته في بناء هويّة ثانية -يعيش مؤقتاً تحت ظلها إلى أن يعود- هُدّمت فوق رؤوسهم، وتُرك الجيل الجديد منهم يبحثُ له عن هويّة أخرى، أقول على لسانهم:
لا تعطنا حلم الرجوع إلى اللجوء وزاده    ******   لا تطحن القمح الذي قد مات بعد حصاده
واعلم بأنّ القمح حيٌّ في تراب بلاده       ******    والحلم حتماً باللجوء إلى الرجوع وعاده
 

ولكنّي لا أعرف من الذي أخاطبه، هل أخاطب الحظ أم أخاطب سادة الحروب لا أعلم ربّما أخاطب العدم، نفس العدم الذي استأصلنا من الزيتون وجعلنا أجسادنا هنا أرواحنا هناك. سارة الصغيرة لم تكن تُجيد عدّ النقود ولم تكن تعرف طرق البيع، ولكن للعبتها الجديدة قواعد أخرى، فلن تقفز فوق المربعات المرسومة بالطبشور على الأرض مرة أخرى ولن تمشط شعر دميتها، الآن بعد أن دخلت هذه البلاد ستضطر لتخطّي السنين والنضوج مبكراً وتحمل المسؤولية والتفكير بأحلام أخرى تناسبُ نومها في هذا الفراش الجديد.
 

ولكن يبقى السؤال الذي يؤرقني، كم سارة دخلت هذه البلاد وإلى متى سيبقى الحال على ما هو عليه؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.