شعار قسم مدونات

عالمنا العربي إلى أين؟ سيناريوهات محتملة

blogs - arab
لم تكن انطلاقة شرارة الربيع العربي حركة سياسية فحسب تهدف لتغيير أنظمة، قدر ما كانت حركة معرفية اجتماعية، تهدف لتغيير نظام عالمي، حتى دون أن يعي أغلب الفاعلين فيها ذلك.
 
لكن الأزمة الحقيقة التي عصفت بالربيع العربي وأدخلته نفقا مظلما، هو عدم القدرة على تجاوز السقف الفكري والأيدولوجي الذي وضع الكل فى بوتقات، وأدخلنا فى صراعات عنيفة صدامية واستئصالية، صراعات أشبه بالتي مرت بها أوروبا أثناء حرب الثلاثون عاما (1618-1648) والتي سحقت دعاوى الكونية الشاملة، والتضامن الطائفي، فكانت المصالح أو المطامع هي التي تحكم في نهاية المطاف.  وتلك الحروب التي خلفت الدمار ودماء أنهار، أرغمت الأطراف المنهكة على الجلوس حول مائدة واحدة، مما نتج عنه معاهدة وستفاليا، والتي أسس على إثرها النظام العالمي، الذي رغم شعاراته المثالية إلا أنه تأسس على مفهوم "معادلة القوة". ذلك النظام الذى يشهد تصدعا وأزمة حقيقية من انعدام للأمن واغتراب بسبب النسبية المعرفية، فضلا عن التفكك والانحلال الأخلاقي، وتشظي الروابط جميعها، وانتشار حالة من السيولة، والآثار البيئية المدمرة التي خلفتها تلك الحضارة المادية. 

الإسلام هو الثقافة الوحيدة القادرة على توجيه تحد فعلي وحقيقي لمجتمعات الغرب التي تسود فيها أمراض الحضارة الغربية المعاصرة، وقادر على تقديم بديل حضاري إذا ما أتيحت له الفرصة والإمكانات.

إن العالم العربي يخوض تجربة مشابهة، وعلى مر التاريخ كانت الخلافات المذهبية والفرق، وإراقة الدماء والنزاعات والصراعات السياسية، توجد نوعًا من الصدمات النفسية والاجتماعية، مما يترتب عليها شعور بعدم الأمان الروحي والمادي، والذي يجعل بعض الناس لا يرون مهربًا من ذلك إلا بالخروج على الدين، الذي يتخذ أشكالا عدة، أقصاها الإلحاد الصريح. أو الهروب بالدين، والذي يتخذ أشكالا عدة أيضاً، أقصاها التصوف الرومانسي. وبناءا على ما تقدم، يصبح أمام العالم العربي ثلاث سيناريوهات محتملة نوجزها فيما يلي:

السيناريو الأول: الفوضى الخلاقة
في عام 1991 تساءلت مجلة شؤون دولية، ما إذا كان من الممكن جعل الإسلام يقبل بقواعد المجتمع العلماني، من خلال صراعات كثيرة وطويلة ومؤلمة، أم أن رسوخ الإسلام في المجال السياسي والاجتماعي، يجعله رافضاً القبول بالمبدأ المسيحي الغربي، الذي يميز بين ما لله وما لقيصر، بما لا يسمح لمعتنقيه أن يصبحوا مواطنين خاضعين للقانون بصورة يعوَّل عليها في ديمقراطية علمانية. وبسبب ذلك الاستعصاء، اتخذت السياسة الغربية من الإسلام عدوا أخضر، خلفا للعدو الشيوعي الأحمر، وذلك منذ إنتهاء الحرب الباردة. ذلك السيناريو الذي نشهده الآن، فوجود أزمات ومشاكل تدفع الناس أفرادا وجماعات خارج حالة التوازن المعتادة، تلك الأزمات التي قد تكون طبيعية كالفقر والأمراض أو مفتعلة كالصراعات والحروب.
 
ولعل انتشار تنصير المسلمين اللاجئين فى أوروبا أبرز دليل على فاعلية هذه الأداة والتي ذُكرت في مؤتمر كولورادو للتنصير الذي نشر وقائعه عام 1979. إن الهدف النهائي لذلك السيناريو هو استئصال شأفة التيارات الإسلامية والفكرة الإسلامية بالكلية، وتأسيس مجتمع علماني ليس سياسيا فحسب، إنما اجتماعيا، وثقافيا، واقتصاديا. فالإسلام هو الثقافة الوحيدة القادرة على توجيه تحد فعلي وحقيقي لمجتمعات الغرب التي تسود فيها أمراض الحضارة الغربية المعاصرة، وهو قادر على تقديم بديل حضاري إذا ما أتيحت له الفرصة والإمكانات كما يرى بعض الباحثين الغربيين.

السيناريو الثاني: الاستبداد الديموقراطي.
يسعى ذلك السيناريو إلى عودة الأمور إلى ما قبل الربيع العربي، والهدف منه وأد الثورات العربية ومطالب التغيير، واحتوائها من أجل حماية الهيكل القائم للنظام العالمي، وعلاج ما يواجهه من تحديات بنيوية من داخله وليس من خارجه، أي من داخل النموذج الحداثي نفسه. ومحاولة التوفيق والضغط من أجل إصلاحات ديموقراطية دون الإخلال بالاستقرار والأمن الإقليمي.
 
ويتم فيه التغيير بوتيرة ثابتة وطويلة الأمد، ويتاح للحركات الإسلامية المشاركة حال تعديلها لأفكارها بما يتناسب مع النظام الليبرالي الرأسمالي، وحينها تحصل تلك الحركات على لقب "معتدلة" في مقابل التيارات الأخرى المتشددة أو المتطرفة، والتي توضع على قائمة الإرهاب ولا يمكن التعاون معها. والاعتدال من المنظور الغربي الأمريكي يتلخص في القبول بالقيم الديموقراطية، ونبذ فكرة الدولة الإسلامية، ونبذ فكرة تطبيق الشريعة والاعتماد على القانون الوضعي، واحترام حقوق الأقليات من وجهة نظر غربية طبعا، وكذلك نبذ مفهوم الجهاد والذي يعتبر نظيرا للإرهاب والعنف.

وذلك هو السيناريو المحتمل حال صعود هيلاري كلينتون لسدة الحُكم الأمريكي، على عكس السيناريو الأول الذي سيكون مرجحا أكثر بصعود دونالد ترامب. 

السيناريو الثالث: مركز حضاري جديد
إن كلاً من السيناريو الأول والثاني يعتمد أكثر على العامل الخارجي ودور المجتمعات والدول العربية كمفعول به أكثر من كونه فاعلا، فى حين أن السيناريو الأخير يعتمد على فاعلية الأمة بالخروج من الأزمة الراهنة بمشروع معرفي حضاري إسلامي. 

والنموذج المعرفى يسعي إلى إيجاد الوحدة خلف التنوع، فى محاولة للتجرد وتجاوز السقف الفكري الأيدولوجي الطوباوي المثالي، الذي يدفعنا إلى إشكاليتين فى غاية الخطورة:
أولهما: على مستوى الفكر، عبر الإيمان بالمعرفة المطلقة، والتحكم الكامل، والتغيير الكوني الشامل، وهو ما يشبه النزعة الدينية الكاثوليكية، وكذلك النزعة العلمية الحداثية، وهو الأمر الذي يربط بين المعرفة والقوة دائما، وفرضها عبر القوانين والإرهاب، لا عبر الدعوة والإيمان.

وثانيهما: على مستوى السلوك، وهو مبني على الأول، فيتسم بالعصبية القبلية والعنصرية الاستعلائية، تجاه الآخر، والدخول معه فى صراع صفري واستئصالي. 

يجب ألا نأمل أن الغرب سينحاز للمبادىء الإنسانية والأخلاقية، على حساب قوتهم وتفوقهم الاستراتيجي.

والرؤية المعرفية الحضارية، تسعى لإيجاد مفهوم تكاملي بين الثنائيات المتقابلة، بعيدا عن التعصبات الأيدولوجية والفكرية، والانتماء الإسلامي فيه ليس انتماء عقيدة، إنما انتماء حضاري ومعرفي، كمظلة تحوي الجميع بمختلف اتجاهاتهم وتنوعاتهم، سواء كانت دينية أو مذهبية أو عرقية.. الخ. وذلك السيناريو لا يجعل الواقع يفرض علينا أجندته، فلا ينتظر مشهد الخراب الكامل وبحور الدم التي ستغرقنا جميعا. فنحن لسنا فى حاجة لمثل هذا المشهد كي ندرك أبعاد الموقف، فنحن أمام تحديات مختلفة تماما عما كانت قبل ذلك، ومحاولة التمسك بمقولات كانت صالحة في وقت مضى لن تنفع فى الوقت الحالي، بل لعلها تزيد الأمور سوءا.

وبدلا من أن نظل غير فاعلين، وقبل أن نقدم فروض الولاء والطاعة لدول خارجية، ونعقد التحالفات معها للحصول على الدعم من أجل الحفاظ، أو الوصول إلى السلطة، فعلينا أن نعي أولا أن الدول كيان مجرد ودائم، موجود بحد ذاته ولا تتحدد بشخصية حاكمها ولا بالمصالح العائلية أو المطالب الدينية الكونية الشاملة، وأما نبراسها الهادئ فيتمثل بالمصلحة القومية القائمة على ما هو محسوب ومدروس. فلا يجب أن نأمل أن الغرب سينحاز للمبادىء الإنسانية والأخلاقية، على حساب قوتهم وتفوقهم الاستراتيجي، وقد كان قادة دول وزعماء تنظيمات جهادية يوما ما حلفاء، وسرعان ما تخلوا عنهم، وسيتخلون عن حلفاء اليوم غدا.

وبدلا من ذلك، تطرح الرؤية المعرفية الحضارية بقوة مفهوم "التيار الرئيسي"، بمعنى المشروع الذي يتوافق حول ملامحه الكبرى وتوجهاته الاستراتيجية مختلف التوجهات في الجماعة الوطنية، فأحد أهم أسباب الإخفاق فى التغيير والنهضة، هو عدم وجود توافق وطني حول توجهات استراتجية للنهوض، ومن ثم التغيير أو الإصلاح المطلوب.

فينبغي رأب الصدع بين التيارات الفكرية الأصلية، والتيارات الفكرية الوافدة، بل وعلى صعيد كل مجموعة من هذه التيارات، وإيجاد صيغة مشتركة للعمل للخروج من النفق المظلم، والاستعداد لتغيير سيحدث في النظام العالمي وفي موازين القوة.
والله أعلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.