شعار قسم مدونات

خدش واحد ويصحو..

blogs - flower
لطالما اجتاحتني الرهبة في البدايات، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالكتابة، حيث أني أحاول بثلاثة أصابع فقط إسالة شهوة القارئ؛ ليتبع كلماتي حرفا فحرفا، دون أن يقفز من كلمة إلى أخرى في السطر الذي يليه، محاولا أن يجد جملة ما مدهشة تغرقه في إكسير النشوة. لكني أقول، ما دمت استطعت يوما ما الارتماء إلى هذا العالم الغريب وأنا بعد عمري 9 أشهر، كيف لا أنجح في خوض هذه التجربة وقد اكتسبت عمرا لا بأس به؟

كيف ينتظر هؤلاء الأطفال الذين يعيشون في الحرب تسلق أعمارهم، وقد شابت قبل الوقت جدائلهم من شظايا الخراب؟ وتلك النساء، كيف يلبسن فساتينهن الحمراء وكل الأرض مضرجة بالدماء؟

إلى سنوات قليلة، كأي فتى مغتر ببضع شعيرات بدأت تقود ثورة تغيير على ذقنه، كنت أرعى أحلامي النزقات قبل أن يفلتن من قبضتي، كنت أرى نفسي ممتطيا صهوة ركح مسرح قاعة ألبرت الملكية، مغنيا يفغر فاه الجمهور بجمال صوته حينا، وحينا آخر يسافر بهم إلى حيث سافر عندما أغمض عينيه، حين بطش به الإحساس في جملة موسيقية ما. رأيت نفسي طباخا ماهرا في فندق خمس نجوم بميامي، وأحلام كثيرة أخرى، كأن اخترت العلوم مسلكا لمتابعة دراستي، فمن منا لم ير نفسه طبيبا أو طيارا يوما ما؟ آه كم كان ذلك جميلا، قبل أن يبدأ هذا النزف.

في الواقع، لا أدري متى بالضبط أصبت بمتلازمة لوك الأبجدية هذه، أكانت نائمة ثم استيقظت، أكان ذلك في مساء بارد أم ظهيرة قائظة، لا أدري صدقوني، ففجأة وجدت نفسي أدرس الآداب، وأعترف ها هنا أني فشلت في دراسة العلوم؛ لأني ببساطة كنت أفعل ذلك على مضض. وفيما بعد درست الإعلام، لأكتشف أن الشيء الوحيد الذي يسير كما هو مخطط له في الحياة هو العمر، أما الأحلام فهي كغيمات الشتاء، تأتي وتذهب، قد تمطر وقد لا تمطر.

وكهلوسات أي كاتب، تساءلت دائما إذا ما كنت أكتب لنفسي أم للآخرين، هل فعل الكتابة فضفضة وتفريغ أم هي ساعي بريد، أم هما معا، بعد تفكير ملي وجدت أنني كإنسان مغلوب على أمره في هذه الرقعة من الأرض، لا يستطيع إحداث خدش صغير لتغييرها نحو الأفضل، (وجدت) أن الكتابة آخر قشة أستطيع التعلق بها للإسهام في إنقاذ العالم من هول ما يشهده من أحداث دامية متسارعة، في زمن أصبح الإنسان فيه مجرد رقم.

كم أجدني في الحقيقة خائنا باستعمال كلمة خدش في الفقرة السابقة، كأن العالم تنقصه الخدوش وكل صباح نستيقظ على صور الأنقاض ونمسي عليها، حتى أننا من فرط ما شاهدناها أصبحت مشاهد مألوفة ولم تعد تحدث فينا كبير أثر، كأن مآقينا نضبت ومشاعرنا أفلست. لكن، أما جلسنا وفكرنا للحظة كيف ينتظر هؤلاء الأطفال الذين يعيشون في الحرب تسلق أعمارهم، وقد شابت قبل الوقت جدائلهم من شظايا الخراب، وتلك النساء، كيف يلبسن فساتينهن الحمراء وكل الأرض مضرجة بالدماء؟

لربما الصورة بألف كلمة، ولكن الصورة إذا ما أصبحت مألوفة تأكل كلماتها وتستوجب تدخل الكلمة بنفسها، ومن ثم، فالكلمة في هذه الأيام هي الوحيدة القادرة على أن تهوي بنا إلى أعماق جراحاتنا النائمة، فمن يدري، ربما تكون أرواحنا المحتاجة إلى خدش كي نصحو مما استطبناه من ألم ووجع، خدش واحد كاف حتى نستعيد بعض إحساسنا، خدش واحد نحدثه بالأقلام كاف حتى نعيد تشكيل علاقتنا بالأشياء، حتى نرقع أعطاب الذاكرة ونلهب هذا الصقيع..

هذه الأوراق البيضاء، هذه التربة العذراء، وحدها الكفيلة بابتلاع الخيبات وغصات الألم، وحدها نقطة الصفر لنعيد رسم ملامح أوطاننا وفق ما نشتهي ليصبح الألم أملا، ففي اللغة إعادة ترتيب صغيرة تغير المعنى جذريا، فكذلك ستنبت الأرض التي ارتوت دما وردا أحمرا.. ولا زال في قلوبنا الكثير من الحب ليتسكع على طرقات هذه الأوطان، خدش واحد، ويصحو..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.