في غمرة انفعالاته الشعرية يضع نزار محددات الشعر الذي يمكن له البقاء، خروجا من عصر المعلّقات ودخولا في عصر الشهر الجديد |
لا يشك عاقل أنها مصيبة لا تدانيها أخرى، بقتل ابن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبعيدا عن التنظيرات والمآلات السياسية التي أعقبت هذه الطامة، فإنها تبقى جرحا يخلّده الشعر في الوجدان، وينزّ أبدا دما دافئا، وكان أن عادني خلال الأيام الماضية في الأجواء المرافقة لهذا اليوم بيتٌ لنزار من قصيدته الشهيرة "إفادة في محكمة الشعر"، فعلقت في عوالمها طويلا.
لا تتحدث القصيدة حصرا عن كربلاء أو استشهاد الحسين، لكنها اتساق مع ذاكرة المكان وتاريخه، فقد أُلقيت في مهرجان الشعر التاسع ببغداد، حين وصل الشاعر رافعا يده، باذلا تحيته المؤجلة، والتي تؤنسن المكان الغافي على التعب، وليرفع العراق يده أيضا في آخر البيت محييا..
مرحبًا يا عراقُ جئتُ أغنّيــكَ … وبعضٌ من الغناءِ بكاءُ
مرحبًا مرحبًا.. أتعرفُ وجهًا … حفـرتهُ الأيّـامُ والأنـواءُ؟
أكلَ الحبُّ من حشاشةِ قلبي … والبقايا تقاسمتـها النسـاءُ
وابتداءٌ كهذا يدخل القارئ في عوالم الشاعر مع عوالم القصيدة، حيث الحدود واهية بين الفضاء العام والخاص، وحيث هموم الشاعر جزء جدير بجلب الانتباه كما هموم العالم، وصدر الشاعر مستودع لأسرار قديمة وخيبات قاسية وغضب بركاني.
أنا جرحٌ يمشي على قدميهِ … وخيـولي قد هدَّها الإعياءُ
فجراحُ الحسينِ بعضُ جراحي … وبصدري من الأسى كربلاءُ
والقصيدة تأتي في مرحلة حرجة ومفصلية في حياة نزار، هي النكسة، حين تحطم مشروع عربي كامل وتهاوى كبيتٍ من زجاج، مدشنا، ربما، لحظة إفاقة شخصية له بعد أن اشتهر بكونه شاعر الحب والمرأة، فكتب "هوامش على دفتر النكسة"، لتجيء لاحقا هذه القصيدة في العام ١٩٦٩م، بكل الألم الجاثم فوق كاهل العروبة من بغداد إلى فلسطين.
سكنَ الحزنُ كالعصافيرِ قلبي … فالأسى خمرةٌ وقلبي الإنـاءُ
وأنا الحزنُ من زمانٍ صديقي … وقليـلٌ في عصرنا الأصدقاءُ
جاءت القصيدة أيضا على بحر الخفيف، وهو أحد البحور الشعرية الراقصة، والتي تحتوي بسهولة تفاوت الإيقاع في القصيدة، ومشاعر الشاعر المتناقضة، وانتقالاته بين الفضاءات العامة والخاصة، فهو يعود من حزنه للعراق، لسامرّاء وللأعظمية، للجسور والنخل والأفياء، ويعود لقوافل الأحباب التي اخترعت حبها على شطّ النهر وسجلته في كشوفات الأبدية، يعود كسندبادٍ طال سفره وتطوافه..
إنني السندبادُ .. مزّقهُ البحـرُ وعـينا حـبيبتي المـيناءُ
مضغَ الموجُ مركبي … وجبيني ثقبتهُ العواصـفُ الهـوجاءُ
إنَّ في داخلي عصورًا … من الحزنِ فهـل لي إلى العـراقِ التجاءُ؟
وفي غمرة انفعالاته الشعرية يضع نزار محددات الشعر الذي يمكن له البقاء، خروجا من عصر المعلّقات ودخولا في عصر الشهر الجديد، فهو لا بكيمياء ولا ألغاز، وليس أرنبًا خشبيًا، أو حصانًا يمتطيه الأمراءُ، أو كرسيًا يُحرم منه البسطاءُ، بل هو شعر يحفر الشمس، وهجمة واكتشاف، وصمود ومقاومة وغضب، وأصدقه الذي يكتبه الفدائي وهو يمضي نحو مجده وخلوده وحده..
يُصلبُ الأنبياءُ من أجل رأيٍ … فلماذا لا يصلبَ الشعـراءُ؟
الفدائيُّ وحدهُ يكتبُ الشعــرَ … وكـلُّ الذي كتبنا هـراءُ
إنّهُ الكاتـبُ الحقيقيُّ للعصـرِ … ونـحنُ الحُـجَّابُ والأجـراءُ
هذه دعوة لقراءة القصيدة التي ذكرتني ذكرى عاشوراء بها، والتي يتجلى فيها غضبُ شاعر وألمه.. وأمله بمستقبل أزهى |
ثم إن الشاعر يعود محملا بأسى القضية الأولى؛ فلسطين، مبتدأ القصائد ومنتهاها، حزينا على ضياعها في مزايدات رخيصة جعلت تنسلّ بسببها البلاد من تحت الأيدي ببطء، وهي خساراتٌ لم تزل حتى هذا اليوم تتوالى، مع مستجدات وغرائب أصبحت تحرق القلب بلا أي معنى للشكوى، وليس أدل على ذلك من تداعي ركب المتصهينين لرثاء بيريز مؤخرا، والبكاء في مراسم عزائه، وهو المجرم الذي شارك في تأسيس الكيان الغاصب، وشارك في كثير من المجازر والحروب والتصفيات التي تطلبها تثبيت هذا الورم الخبيث في جغرافيا لا ترحب به، وهي مستجدات يعجز الكلام والشعر والعقل والبداهة عن التعاطي معها، ولعل بيتا في القصيدة يقارب هذا البؤس والخيبة، حيث يقول الشاعر:
ذروةُ الموتِ أن تموتَ المروءاتُ … ويمشي إلى الوراءِ الوراءُ
ليست هذه سوى قراءة لا تفي بالكثير، ودعوة لقراءة القصيدة التي ذكرتني ذكرى عاشوراء بها، والتي يتجلى فيها غضبُ شاعر وألمه.. وأمله بمستقبل أزهى لأمة لا تزال جراحها طرية، وتاريخها غير محسوم، وقدرها يتشكل لحظةً بلحظة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.