شعار قسم مدونات

هل علينا أن نحمل من نحب جثثاً هامدة؟!

blogs - syria

في كل يوم أسأل نفسي كم سأحمل من الجثث الهامدة في ذاكرتي، ولماذا أحمل من أحب جثة في تلك الذاكرة، تتصارع الأفكار وتختلط الأشواق بصداع الرأس وألم القلب وبتلك الذكريات التي عبرت متاهات حياتي الطويلة، لربما كانت تلك الذكريات التي عبرت حاجز النسيان هي الأصعب والأثقل بين كل تلك الجثث التي حملتها.

لم أنس مقولة الكاتب الجزائري واسيني الأعرج الذي قال "شيء واحد حاول أن لا ترتكبه في حياتك قبل أن تحاول النسيان اشبع ممن كنت تحبّ حتى لا تحمله معك في عزلتك جثّة تنغّص عليك حياتك"، تلك الكلمات كانت صادقة لأبعد الحدود، ولكن ماذا لو كان الزمان قصير والرحيل حل بنا بلا حول منّا ولا قوة.
 

"إذا كانت لك ذاكرة قوية وذكريات مريرة فأنت أشقى أهل الأرض" هل أنا ذاك الشقي بين تلك المليارات، كيف لا وأنا اليوم أستذكر التفاصيل التي كانت  أجمل لحظات عشتها.

عبد الرحمن ومحمد ومجد وقيس وأمجد والكثير من أولئك الشباب والرفاق رحلوا مبكراً دون سابق إنذار أو موعد للوداع، فبين فينة وأخرى فرقت بيننا حبات التراب ورصاصات غادرة. بعد ثلاث سنوات من رحيل عبد الرحمن ما زالت أذكر كيف نزل بي خبر استشهاده، كيف كان الخبر مدوياً وعاصفاً كالبرق، لم أستطع البكاء ولا حتى الصراخ، كم كنت أود ذلك يا صديقي.

لم أدر لماذا ذاك، ربما عادات مجتمعنا تحرم على الرجال البكاء والصراخ والنواح، أم أنني حينها لم أستطع فعل شيء، لربما يا صديقي كانت الصدمة أكبر من صراخي وبكائي حتى لم أعد أشعر بالعالم من حولي، كنت حينها أسترجع شريط حياتنا ومغامراتنا الطويلة، كنت أستذكر أيام دراستنا ومظاهرتنا في الساحات، وأستذكر بعض اجتماعاتنا.

تذكرت حينها صوتك الشجي بقراءة القرآن الكريم، وطموحك الكبير، وابتسامتك وأخلاقك التي لم أرَ لها مثيل، كنت لي خير أخ وقدوة أحتذي بها، وملجأ لكربي وقت الشدائد، وناصحاً لي في المصائب.

رحل عبد الرحمن بعد سبع سنوات من صداقتنا برصاصة غادرة من جنود الأسد، تبعه مجد الذي استشهد تحت التعذيب في أقبية المخابرات السورية، وقيس ومحمد أثناء تغطيتهم الصحفية للأحداث في درعا، في كل مرة كان خبر استشهادكم يشكل طعنة جديدة في ذاكرتي وجثة جديدة أحملها معي لتتحكم في حياتي وابتسامتي ومعركتي مع الماضي.

كنت دائماً أستذكر تلك المقولة "إذا كانت لك ذاكرة قوية وذكريات مريرة فأنت أشقى أهل الأرض"، هل أنا ذاك الشقي بين تلك المليارات، كيف لا وأنا اليوم أستذكر تلك التفاصيل التي كانت فيما مضى أجمل لحظات عشتها، وها هي اليوم تنغص حياتي وتؤرق ليلي.

تلك التفاصيل أصبحت كابوساً يراودني كلما هممت بالراحة والهدوء وقليل من الوحدة والإنعزال، حتى بات النسيان هو الحلم والطموح الذي أسعى له اليوم للهروب من الماضي وذكراه.

اليوم وبعد سنوات من ثورتي، فرقتنا خلالها حبات التراب ورصاصات خرجت من أيدي جبانة، أو مسافات بعيدة وحدود سخيفة وبلدان لجوء ومهجر حرم علينا دخولها وخروجها متى شئنا وشاء اللقاء أن يجمعنا، أتساءل اليوم هل سأحمل مزيدا من الجثث والذكرى القاتلة، أم أكتفي بمن في ذاكرتي وأغلق أبواب المحبة والصداقة في وجه القادم مع الأيام. 

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان