في أول سنوات إقامتي في إسبانيا كان كل همي منصبا على زيارة الأندلس التي كانت مرسومة في خيالي من أجل إطفاء ذلك الشغف المربوط بها، وهو الشغف المقيم في كل من قدر له أن يتعرف على تاريخ بلاد الأندلس الفياض الذي يحمل كل معاني المجد وكل تفاصيل الخيبة في نفس الوقت.
كنت أسافر دوريا إلى العديد من المناطق، فبعد أن رجعت إلى غرناطة وحمرائها وقرطبة ومسجدها وإشبيلية ومئذنتها، وهي المناطق التي كنت قد تعرفت عليها سابقا في سفر جامعي، شرعت في التعرف على مناطق أخرى لا تقل أهمية في التاريخ الأندلسي، ولكن قلة معرفتنا بها جعلتها مجهولة ومغمورة بالنسبة للكثير.
ذهبت إلى سرقسطة عاصمة الثغر الأعلى، وإلى تطيلة مدينة حكام بني قصي، وإلى بطليوس وماردة عاصمتي التمرد على الخلافة الأموية، وإلى شريش مدينة الشريشي شارح مقامات الحريري، وإلى البشرات معقل آخر الأندلسيين الأحرار، وكانت كل أسفاري عبر طرق ثانوية تمنحني فرصة التعرف على قرى أندلسية نائية ومعالم أثرية إسلامية متناثرة في تضاريس إسبانيا الساحرة.
عدد الأماكن التي تمارس فيها الشعائر الإسلامية في إسبانيا بين قاعات الصلاة الصغيرة والمساجد الكبيرة المدعمة يقارب الألف وأربعمائة مكان |
كانت هذه الأسفار منبعا لأفكار وخواطر تنهمر علي دونما توقف، كانت تملؤني بالتساؤلات التي لم أكن أملك أجوبتها جميعا، ولعل من بين أهم الملاحظات التي سجلتها في أسفاري عبر قرى ومدن إسبانيا هي تواجد المصليات الإسلامية والمساجد، تقريبا في كل نقطة وطأتها قدمي لم يكن أمامي أي إشكال لأداء صلاة الجمعة، وأنا مسافر بالسيارة كل ما كان علي فعله هو أن أتوقف أمام أول قرية تصادفني قبل دخول وقت الصلاة ثم أبدأ بالتجول بالسيارة باحثا عن ملامح إسلامية في وجه مغربي أو إفريقي أو باكستاني أسأله عن مكان المسجد ووقت الصلاة، أؤدي صلاتي ثم أنطلق مواصلا رحلتي باحثا عن بقايا الأندلس.
صحيح أن ممارسة الشعائر الإسلامية لم تتوقف قط في إسبانيا حتى بعد طرد الموريسكيين في بدايات القرن السابع عشر للميلاد، حيث نقلت لنا الوثائق التاريخية أخبار عن محاكمات ضد أشخاص اتهموا بممارسة الدين الإسلامي خفية في القرن الثامن عشرن بل وحتى في القرن التاسع عشر، ثم لم يلبث أن عاد الإسلام إلى إسبانيا في القرن العشرين عبر الجنود الريفيين الذين أحضرهم فرانكو قبل أن تنفتح إسبانيا ويتدفق عليها كم هائل من المهاجرين المسلمين في نهايات القرن العشرين، ولكن معالم التواجد الإسلامي الذي ميز الأراضي الإسبانية مدة ثمانية قرون هي عمر الأندلس الإسلامية اختفت نهائيا في القرن السابع عشر ولم يبق مسجد رسمي واحد واندثر كل ما تعلق بالإسلام من مظاهر.
كانت وفرة المساجد في إسبانيا نقطة مدهشة لشخص مثلي اهتم بتاريخ الأندلس وعرف ما آل إليه الإسلام بعد سقوط الحكم الإسلامي فيها، فقد أدركت بعد دراسات دقيقة أن عدد الأماكن التي تمارس فيها الشعائر الإسلامية في إسبانيا بين قاعات الصلاة الصغيرة والمساجد الكبيرة المدعمة يقارب الألف وأربعمائة مكان، وهذا ما دفعني لأكتب متسائلا هل استعدنا الأندلس.
يعزز جدية سؤالي عدد المسلمين المتواجدين في إسبانيا والذي يتجاوز المليونين منهم خمسمائة ألف إسباني الجنسية، يتضمنون ستين ألف مسلم من أصول إسبانية خالصة، لو أردت الجواب على سؤالي من ناحية عددية لكان الرد بنعم، لقد استعاد المسلمون الأندلس لقد عادت إليها المساجد ودور القرآن وكثر المسلمون وزاد عددهم وانتشروا في كل قرى ومدن إسبانيا، كما كان عليه الحال قبل سقوط الأندلس المميت، ولكن إذا أجبنا من ناحية عملية لأدركنا أن كل هذه المعطيات حول الإسلام والمسلمين في إسبانيا تغطي واقعا مريرا يترجمه الوضع السلبي الذي يعيشه المسلمون في هذا البلد.
أغلب المسلمين في إسبانيا يعيشون على الهامش ولا يشاركون في الحياة السياسية والمدنية، جلهم منغلق على ذاته ولا يقدم للمجتمع الإسباني أي خدمة فعالة تجعله يلقى الاحترام اللازم من بقية شرائح المجتمع، يعيش المسلمون في إسبانيا تائهين في يوميات البحث عن الرزق، فأغلبهم يعيش حالة اقتصادية صعبة، والكثير منهم يعاني بطالة مزمنة، أما من يسر حاله فيوجه مداخيله إلى بلده الأصلي وكأنه مستقيل من الانتماء إلى البلد الذي يضمه ويوفر له الحياة الكريمة، وكأنه غير معني بتاريخ المسلمين في هذا البلد، وكأنه غير مدرك لوضعه الامتيازي الذي لم يحظ به أسلافه.
في انتظار أن يتنبه المسلمون في إسبانيا؛ أستطيع أن أجزم أننا لم نسترجع الأندلس بعد، وأننا نضيعها مرة أخرى كما ضيعها من سبقونا. |
يعيش المسلمون خارج مجال التأثير العلمي والسياسي ويتحملون أعباء انسحابهم من الحياة السياسية والاجتماعية في يومياتهم يتحملون قوانين المدارس الإسبانية التي تقصي هوية أبنائهم أحيانا ويرضخون للقوانين المدنية التي تقيد حرياتهم أحيانا أخرى.
صحيح أن وضع المسلمين في إسبانيا أفضل بكثير مقارنة بوضع بقية المسلمين في مناطق أخرى في أوروبا، ولكن كان من الممكن أن يتحسن هذا الوضع كثيرا وأن يتطور إلى الأفضل لو قدم المسلمون ما يجعلهم يستحقون المطالبة بظروف أحسن لو ركزوا جهودهم على المشاركة الفعالة في المجتمع الإسباني، لو خرجوا من قوقعتهم العصبية التي يعيشونها بعمق، لو تفتحوا على حياة البلد التي تأويهم، لو رسموا حياتهم في المكان الذي يسترزقون منه ويعيشون فيه بدل النظر إليه كمركز عبور إلى الضفة الأخرى التي يندر من يعود إليها.
في انتظار أن يتنبه المسلمون في إسبانيا أستطيع أن أجزم أننا لم نسترجع الأندلس بعد وأننا نضيعها مرة أخرى كما ضيعها من سبقونا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.