كثيراً ما يروج في واقعنا المعاصر لفظ "استغلال الدين" من أجل مصلحة من المصالح الدنوية، أو مصطلحات مشابهة، مما يجعل من الكثير وإن كانوا متدينين يرفعون شعارات تعزل الدين عن الحياة العامة وتحصره في المسجد أو التزام الشخص في قرارة نفسه، دون أن يشمل ذلك الحياة العامة من سياسة واقتصاد واجتماع.
ومثال هذه الشعارات المستوردة كقول بعضهم "الدين مقدس والسياسة مدنسة، فلا يجوز الجمع بينهم" أو المقولة التي تقول "ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، وهذه الشعارات كلها تصب في غرض واحد ألا وهو إبعاد الدين عن الحياة العامة وعزله في زوايا ضيقة جداً، خلاف المقصد الذي جاء به الدين الذي هو تخليق الحياة العامة على جميع مستوياتها الاقتصادية والسياسية، كون العبادة لا تعني الصلاة وحدها بقدر ما هي الالتزام بأمر الشارع في كل نواحي الحياة. وهنا نتساءل ، ما المقصود من تخسير الدين؟ وما المقصود من تحكيم الدين؟
فالتجارة بالدين معناها تسخير النصوص الدينية من أجل تبرير أفعال وتصرفات من بيدهم السلطة، أو توجهات سياسية لا تمت إلى الإسلام بصلة. |
وللإجابة على هذين السؤالين لابد من الإشارة إلى أن الدين -أي الإسلام- هو "شريعة وواجب وحق ومسؤولية وعدلٌ وسلطان يحكم ويفرض القسمة العادلة على الكافة. الدين هو انقيادٌ لأمر الله، واستجابةٌ لنداء رسول الله، وتربية النفوس والعقول والسلوك على طاعة الله. الإسلام دعوة تربي ودولةٌ تمشي بالناس على صراط مستقيم. الإسلام قرآن وسلطان".
كتاب حوار الماضي والمستقبل، ص:222.
وركزت على الإسلام كونه أكثر الأديان تعرضاً للهجوم والنقد، واضطهاد من الداخل والخارج، كونه ليس هناك قوى تحميه وتحمي أتباعه من الاضطهاد كما هو الحال مع النصرانية واليهودية.
أما تعريف الدين عند الحداثيين أو العلمانين فهو عامل مُدَجّن من عوامل الاستقرار الاجتماعي لا بأس بوجوده هناك وبقائه لتتسلى به العجائز. أو هو "أفيون" للشعوب يُحارَبُ ريثما تغيثه البرسترويكا فتعيده إلى دار الأمان في ركنه مع العناكب العتيقة، وهذا التعريف الذي يطلقه مدعوا الحداثة نابع من قناعتهم الإلحادية التي تنفي الألوهية عن الله تعالى وتلخص الكون في المقولة المشهورة "الدنيا ما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر" وعلى هذا الأساس تنبني نظرتهم للكون، وتكون قناعتهم التي يحاكمون بها كل معتقد يخالفهم.
ولكي لا نتيه خلف المفاهيم نركز على السؤالين السابقين لبناء هذا المقال، ألا وهما مفهوم التسخير والتحكيم للدين.
لنبدأ بمفهوم مفهوم "تسخير الدين" أو بمصطلح أكثر وضوحاً التجارة بالدين، فهذا المفهوم حذر منه الله عز وجل في كتابه العزيز قائلا "وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ" البقرة 41ـ42. فالتجارة بالدين معناها تسخير النصوص الدينية من أجل تبرير أفعال وتصرفات من بيدهم السلطة، أو توجهات سياسية لا تمت إلى الإسلام بصلة، فيؤجر من أجل إضفاء الشرعية على تلك الأفعال والتصرفات الفقهاء أو ما يصطلح عليهم بعلماء السلطان. وقد كان هذا أيضاً مع القساوسة والرهبان الذين حرفوا الإنجيل والتراث من أجل الأطماع السياسية والاقتصادية.
فيكون هنا تسخير الدين مقابل المصالح التي حرم الشارع ارتكابها فيلجئون حينها إلى ليِ أعناق النصوص لتصير موافقة لغرضهم وأهدافهم عن طريق علماء متخصصون في هذا المجال. في حين نجد أن هؤلاء المسخرون للدين من أجل مصالحهم يبعدون أو يبتعدون عنه في حياتهم العامة والخاصة ولا يوظفونه إلا حين يعسر عليهم تبرير أمر للعامة كي لا يحتج عليهم من يحمل في قلبه شيء من الدين.
وهذا أدى بالكثير من العلماء الذي يناشدون النهضة إلى التماشي مع الأطروحة الحداثية التي تقول بإبعاد الدين عن كل ما هو اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي، وفي هذا كتب عبد الرحمان الكواكبي (1854-1902) وهو من أبرز ممثلي الفكر النهضوي في كتابه "طبائع الاستبداد" يقول "يا قوم -وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين- أدعوكم إلى تناسي الأحقاد والإساءات، وما جناه الآباء والأجداد.. يا هؤلاء، نحن ندبر شؤوننا، نتفاهم بالفصحى، ونتراحم بالإخاء، ونتواسى في الضراء، ونتساوى في السراء. دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الآخرة فقط. دعونا نجتمع على كلمات سواء، ألا وهي فلتحي الأمة! فليحيى الوطن! فلنحي طلقاء أعزاء! أدعوكم وأخص منكم النجباء، فلنصبر ولنتصبر فيما إليه المصير."
أما مفهوم تحكيم الدين الذي جعل الدين هو منهج الحياة، وتحكيمه في كل المجالات الاجتماعية منها والسياسية والاقتصادية، بل تحكيمه في أبسط الحركات والسكنات، وخاصة في المجتمع المؤمن الذي يدين مواطنه بدين الإسلام ويشكلون أغلبية سكانه. كون هذا حلقة من الحلقات التي تعين المؤمن على استخلاص آخرته وإخلاص العبودية لله عز وجل في بيئة نقية خالصة من كل الفتن التي تبعد المؤمن عن غايته التي هي عبادة الله تعالى.وهذا ما نجده مغيب في المجتمعات العربية المفتونة المختلطة.
لا يُصلح الناس فَوضَى، ولا يستقيم أمر المسلمين بلا نظام حكم، ولا يخدم أهداف الإسلام الجماعية والفرديةَ نظامٌ لا يخضع للإسلام ولا تكون طاعتُه من طاعة الله ورسوله. |
وقد جاء عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لَمَّا جِئْتُ بِهِ" ولفظ أحدكم هنا تأتي على فرد آمن بالله ورسوله كيف ما كان موقعه في المجتمع، سواء كان حاكماً أو قاضياً أو راعياً. فلا يجوز للمؤمن أن يعمل بخلاف ما يؤمن به أو يحكم بخلاف ما جاء في الشرع الحكيم، فيستحق حينها ثلاثة أوصاف ذكرها الله تعالى في قوله تعالى "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" وفي آية أخرى "فأولئك هم الفاسقون" وفي أخرى "فأولئك هم الظالمون" ومن هنا فالازدواجية في الموقف نفاق يتصف به الفاعل.
ونحن نرى كيف يحترم الحداثيون مبادئهم وقناعاتهم ويصرفونها في المواقف السياسية دون أن يعترض عليهم أحد، كونهم يملكون الوسائل التي تزين مواقفهم وقناعاتهم للعام. في حين نجد المسلم يتحاشى من إظهار قناعتهم وإيمانه خوفاً من أن يتهم بالإرهاب أو التخلف، كون العالم اليوم متكالب على الإسلام مصوراً إياه للناس بأنه دين إرهاب وعنف، في صمت تام ممن يتبنونه.
وفي الختام يمكن القول بأن تسخير الدين لتبرير المصالح الضيقة وتهميشه في الحياة العامة من أعمال المنافقين. وفصل الدين عن السياسة هو مفهوم مستورد من الغرب لا يصلح تطبيقه في مجتمع مسلم يحتكم إلى الشرع الإلهي، وكل إبعاد للدين فهو إبعاد للمسلم عن المجتمع مما يجعله يعيش غربة داخل وطنه وبين إخوانه، فينتج عن ذلك تفرقة وشتات تنعكس سلباً على أبناء الوطن الواحد أصحاب الدين الواحد.
"لا يُصلح الناس فَوضَى، ولا يستقيم أمر المسلمين بلا نظام حكم، ولا يخدم أهداف الإسلام الجماعية والفرديةَ نظامٌ لا يخضع للإسلام ولا تكون طاعتُه من طاعة الله ورسوله، فالإسلام دولة ونظام حكم، لا يُضارّ في ذلك مجادل"
كتاب العدل: الإسلاميون والحكم، ص: 77.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.