شعار قسم مدونات

هوية مصر كسؤال علماني

blogs - egypt
هل نحن فراعنة؟

يرى تيموثي ميتشل في دراسته المهمة: "صنع الأمة: سياسة التراث في مصر" أن "أحد الأشياء الغريبة المتصلة بمجيء عصر الدولة – الأمة الحديثة يكمن في أن إثبات أنك حديث يعني بالضرورة أن تثبت أيضًا أنك قديم. فالأمة التي تريد بيان أنها مواكبة للعصر وتستحق مكانًا بين أسرة الدول الحديثة إنما تحتاج، بين أمور أخرى، إنتاج ماضٍ لها."

كانت أزمة الهوية المصرية في بدايتها أزمة علمانية؛ ليبرالية بشكل أساسي ثم ساهم اليساريون فيها بعد ذلك.ولم تكن أزمة إسلامية كما هو شائع.

يمكن القول أن هذا هو بالضبط كان مطلوب أكثر النخبة السياسية والثقافية في مصر خلال العشرينات، وقد توسلوا تحقيق هذا الهدف من خلال إعادة إحياء وبث التراث الفرعوني الذي تواصلوا معه -للمفارقة- عبر وساطة استشراقية محضة من خلال علم المصريات حديث النشأة في أوروبا، فلم يكن أكثرهم -على سبيل المثال- يستطيع قراءة أو كتابة الهيروغليفية، بل اعتمدوا بشكل كامل على الاختراع الاستشراقي بها.
* * *

موسم الحجِّ إلى طيبة
في عام ١٩٢٢ اكتشف هوارد كارتر مقبرة توت عنخ أمون، وقد تزامن هذا الاكتشاف مع وصول ثورة ١٩١٩ إلى ذروتها بقيام الدولة القومية المصرية "المستقلة". والمقبرة نفسها اكتُشفت سليمة لم يمسّها الزمن ولا اللصوص، وكنوزها التي لم يُر مثلها قدمت دليلاً لا يدحض على عظمة أسلاف مصر الجديدة من الفراعنة العظام.

وقد تزامن افتتاح المقبرة في مارس ١٩٢٤ مع بدء أول انتخابات برلمانية تشهدها مصر المستقلة. وقبل افتتاح البرلمان بعشرة أيام، توجهت ثلاث قطارات، من القاهرة إلى الأقصر، تحمل أصحاب المقام الرفيع من المصريين والأجانب للمشاركة في الافتتاح الرسمي للمقبرة، كما زارها زيارة رسمية الملك فؤاد وأعضاء البرلمان المنتخب لتوه والمندوب السامي البريطاني (لورد أللنبي).

كان اكتشاف المقبرة -إذن- في وقت ينتهي فيه عهد قديم ويبدأ فيه عهد جديد رمزًا لبعث "الأمة العصرية"، ولقفزة مصر المرتقبة من ظلمات العصر العثماني الإسلامي إلى نور عهد مصري أصيل وجديد كما قيل آنذاك.

عانى مثقفوا مصر في العشرينات من أزمة هوية؛ فقد أصبح بإمكان مصر في ذلك التوقيت -ولأول مرة منذ زمن طويل- أن تنظر إلى نفسها كدولة مستقلة، وقد كان لزامًا على نخبتها السياسية والثقافية أن تحفر عميقًا في التاريخ لكي تخترع هذا الأساس النظري الذي يبرر حكمها، وقد وجدوا ضالتهم في "الفرعونية". لم تكن الفرعونية – إذن- مجرد نظرية فكرية؛ فقد سعى هؤلاء المثقفون والسياسيون لتحقيق الحقائق الفرعونية التي توصلوا لها ووضعها موضع التطبيق. وعن طريق الكتب ومقالات الصحف والرواية والدراما والشعر والفنون البصرية حاولوا بث حماسهم لكل ما هو "فرعوني" انطلاقًا من مبدأ محمد حسين هيكل من أن المصريين في حاجة أولاً، وقبل كل شيء لأن "يُعرِّفوا أنفسهم". وبالتالي فقد تحدَّد دور هذه النخبة التاريخي في تعريف الأمة بـ"جوهرها" الفرعوني واستلهامه.

كانت أزمة الهوية المصرية في بدايتها أزمة علمانية؛ ليبرالية بشكل أساسي ثم ساهم اليساريون فيها بعد ذلك.ولم تكن أزمة إسلامية كما هو شائع وإن كانت بعض طوائف الإسلاميين قد تولت كبرها فيما بعد، ففي بداية الثلاثينات كتب حسن البنَّا الشاب يرد على مجموعة من المقالات لمحمد حسين هيكل الذي لم يكن قد أكمل تحوله الفكري بعد؛ كتب مستنكرًا اختزال هوية مصر إلى فرعونية فقط وتحدَّث عن ثلاث دوائر متداخلة للهوية: مصرية وعربية وإسلامية.

وقد كان حجُّ المثقفين المصريين من دعاة الفرعونية -أمثال محمد حسين هيكل وعبد القادر حمزة وسلامة موسى- في العشرينيات للآثار الفرعونية في صعيد مصر هو وسيلتهم الأساسية للتعبير عن الإعجاب بالتراث الفرعوني، والإحساس باستمراريته. فالبعث القومي لمصر يتطلّب اتصالاً مباشرًا بالميراث الفرعوني. وهم يرون أن فكرة الحجِّ إلى صعيد مصر ومآثره الفرعونية ليست مجدر تعبير عن الحنين إلى الماضي، وليس هروبًا من الحاضر المنقوص والمحبط إلى ماضٍ مثالي، أو إلى الجنة المفقودة. ولكن هذا الحجّ كان ذا طبيعة عملية، وكما عبّر عنه عباس محمود العقاد في 1924 فإن "المصريين الذين حجُّوا إلى قبر توت عنخ آمون إنما جاؤوا إليه يبتغون الحياة.

شهدت تلك الفترة أيضًا ذروة الإنتاج الأدبي والفني المستلهم للفرعونية من روايات ومسرحيات وقصص وقصائد اتخذت من العصر الفرعوني موضوعًا لها. وقد كان الطابع الغالب على هذا النوع الجديد من الأدب طابعًا تعليميًا، وقد أبان هذا الطابع التعليمي عن نفسه من خلال الكتب التربية الوطنية المدرسية التي كانت تُدرَّسُ في مدارس الدولة المصرية الجديدة.

فقد حوت تلك الكتب فصولاً وأقسامًا حول تاريخ ومدنية مصر القديمة. وأضيفت مقررات مختصة بالعصر الفرعوني. وانتشرت الرسومات المستلهمة من الأعمال الفنية على المقابر الفرعونية في الصحف المصرية ودخل نمط البناء الفرعوني في المباني الرسمية للحكومة المصرية في ذلك الوقت أيضًا فأنتج مجموعة من الآثار البصرية التي عزّزت لدى "المصريين" الشعور بهويتهم "الفرعونية" الأزلية/المستحدثة. فقد أزيح الستار عن تمثال "نهضة مصر" للمثَّال محمود مختار في مايو 1928.

في النصف الثاني من الثلاثينات كانت الفرعونية قد خسرت زخمها القديم وأصبحت من مخلفَّات الماضي خاصة وقد كانت تلك الفترة مرحلة صعود المزاج الإسلامي والعروبي.

ونحت محمود مختار أيضًا تمثالان لسعد زغلول عقب وفاته. وبعد جدل سياسي وصحفي ضخم بُني ضريح سعد زغلول على هيئة معبد فرعوني استدعى انتقاد الصحافة لوثنيته الظاهرة، وتكلفته الباهظة التي بلغت 38000 جنيه. وكان تمثالي سعد زغلول منحوتان من جرانيت أسوان كتمثال نهضة مصر، ومزينان بنقوش فرعونية وكان من الواضع أن هناك نية رسمية لتحويل سعد زغلول إلى رمز "للروح الفرعونية التي تخفق في مصر."

لم يستمر ألق الفرعونية طويلاً، ففي النصف الثاني من الثلاثينات نُصِب تمثالي سعد زغلول في القاهرة والإسكندرية، وقد تأخر نصبهما هذا الوقت الطويل نتيجة لعدم قدرة الوفد على الاستمرار في الحكم مددًا كافية تُمكِّنه من إتمام مشروع بناءهما ونصبهما، وتولي خصومه السياسيين مقاليد الحكم.

ولكن في النصف الثاني من الثلاثينات كانت الفرعونية قد خسرت زخمها القديم وأصبحت من مخلفَّات الماضي خاصة وقد كانت تلك الفترة مرحلة صعود المزاج الإسلامي والعروبي المعادي للفرعونية الضيقة مع تمدد تنظيمات الإخوان المسلمين ومصر الفتاة وبروز قضية الهجرة الصهيونية لفلسطين. إلى جانب ذلك كانت اتجاهات الوفد المهادنة للاستعمار الإنجليزي قد أبانت عن نفسها من خلال توقيع معاهدة 1936 التي شرعنت الوجود الإنجليزي في مصر، فبدا أن هذين النصبين التذكاريين أصبحت تذكارات بالية من عصر زائل.

ويلاحظ إسرائيل جرشوني ويان يانكوفسكي أنه لم يسبق لأحد من الزعماء الوطنيين المصريين قبل العشرينيات أو بعدها أن دُفن في مقبرة على هيئة معبد فرعوني. فكل الوطنيين من زعماء مصر الحديثة، ابتداءً من محمد علي ومروراً بمصطفى كامل وانتهاءً بجمال عبد الناصر دُفنوا في مساجد، وكان سعد زغلول هو الاستثناء الوحيد. وهو، بذلك، يُعدُّ انعكاسًا أصيلاً لحقبة العشرينات الفريدة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
– إسرائيل جرشوني ويان يانكوفسكي، هوية مصر بين العرب والإسلام: 1900 – 1930
– تميم البرغوثي، الوطنية الأليفة: الوفد وبناء الدولة الوطنية في ظل الاستعمار
– إبراهيم البيُّومي غانم، الفكر السياسي للإمام حسن البنَّا
– تيموثي ميتشل، دراستان حول التراث والحداثة

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.