زجاج يتحدى الزمن بأنامل فنان مسلم
المشكاة فن إسلامي أصيل صنعه الفنان المسلم من الزجاج المشكل والملون، وبه أضاء وزين المساجد والقصور عند افتتاحها مع بداية رمضان من كل عام.

لم يكن الفنان المسلم يمارس صناعة المشكاة كعمل مجرد، بل باعتباره نشاطا وثيق الصلة بعالمه الروحي وبإنسانيته، وعندما ابتعد الفن الزخرفي الإسلامي عن الزخرفة التصويرية لأسباب دينية بحتة، فُتح باب خيال الحرفيين المسلمين لإبداع مختلف الأشكال والتصاميم، وخرجت من بين أيديهم أروع آيات الفن ممثلة في محاكاة الطبيعة، كما في فن زخرفة وكتابة المصاحف، وفنون المشكاة الإسلامية.
استمد الفنان المسلم صوره من الطبيعة، لكنه لم يصورها أو يقلدها تقليدا أعمى، بل أعمل خياله، وتظهر هذه الزخرفة بوضوح في زينة الجدران والقباب والتحف، كما نراها في تزيين صفحات الكتب وفي تجليدها.
وفي حديث للجزيرة نت، قال أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة عين شمس الدكتور نادر عبد الدايم إن المشكاة لفظ عربي أصيل يعني كل "كوة" في الجدار غير نافذة، سواء كانت مقعرة أو نصف دائرية، نراها في القصور أو المساجد تغور في عمق الجدار كتجويف قد يُبطّن بالفسيفساء أو الرخام، وتوضع فيها التحف أو القناديل، ثم استطال اللفظ ليشمل كل زجاجة أو قنديل يوضع فيه المصباح بغرض حفظ النار من هبات الرياح.
وأضاف أن المصباح يوضع داخل المشكاة ويثبت بواسطة أسلاك تلتف حولها، أما المشكاة نفسها، فتعلق بواسطة سلاسل تتصل بالسقف، وتكون هذه السلاسل من الذهب أو الفضة أحيانا.
ويشرح عبد الدايم أن المشكاة تشبه في شكلها إناء الزهور، وتختلف ألوانها بين الأخضر والأحمر والأبيض والوردي، ويضيف أن الفنان المسلم استطاع أن يتميز في تشكيل الزجاج اليدوي إلى جانب براعته في زخرفته، وهو ما أضفى نوعا من الثراء الجمالي لحرفة الزجاجين.

علاقة المشكاة بالمحراب
جاء رسم المشكاة في الفن الإسلامي مرتبطا بالمحراب، وهي ظاهرة تعود إلى عصر المغول، حيث كان المحراب يُوضع في طاقيته مشكاة للإضاءة.
وفي المخطوطات العربية في القرن السابع الهجري، رُسمت المشكاة داخل المحاريب والعقود للتدليل على أن المكان المصور هو مسجد، ومن أمثلة ذلك صورة من مخطوط مقامات الحريري عليها صورة لرجل يُدعى أبو زيد السروجي، يقف على المنبر في مسجد به محراب تتدلى منه مشكاة وسقف عبارة عن خط تتدلى منه مشكاة أخرى.
وعلى الرغم من أنه لم يُعثر على قطع يمكن نسبتها إلى ما قبل القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، فإنه وردت نقوش على واجهة جامع الأقمر الحجرية تؤرخ بعام 519 من الهجرة تفيد معرفة الفاطميين بالمشكاوات.
وعرف العصر المملوكي عدة أشكال للمشكاوات، منها شكل آنية الزهور (المزهرية)، ومنها الشكل الإسطوانى الكبير الحجم، ومنها شكل الصدرية ومنها مشكاوات غير معلقة بهيئة سلطانية كبيرة متسعة الفوهة ترتكز على قاعدة مرتفعة، حسب الدكتور عبد الدايم.
الزخرفة بالذهب
ويضيف عبد الدايم أن العصر المملوكي يتميز بالعديد من الأمثلة المختلفة من المشكاوات المزخرفة بالمينا والمموهة بالذهب، منها ما كان موقوفا على الإنارة بالمساجد أو الأضرحة أو الخانقاوات.
وتعتبر المشكاوات المزخرفة بالمينا والمموهة بالذهب والمزدانة بالآيات القرآنية من أجمل أدوات الإضاءة التي تنطق زخارفها بالدقة والمهارة التي بلغها الفنان في العصر المملوكي حتى وصلت إلى أوج ازدهارها وكمالها الفني في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي.
ومن تلك المشكاوات المملوكية، مشكاوات السلطان برقوق وتعتبر من أكبر مجموعات المشكاوات التي وصلتنا حتى الآن، إذ وصل عددها المحفوظ بمتحف الفن الإسلامي بالقاهرة وبمسجد الإمام الحسين بالقاهرة إلى 58 مشكاة، تليها مجموعة السلطان حسن التي يحتفظ متحف الفن الإسلامي بالقاهرة بنحو 48 منها، تليها مجموعة مشكاوات الناصر محمد بن قلاوون ثم مجموعة مشكاوات السلطان شعبان.
ولأن المشكاوات تُعد من أهم أدوات الإضاءة التي استخدمت في مصر عبر فترات مختلفة من التاريخ، كان من السهل التعرف على المشكاوات التي صنعت للسلاطين، إذ كانت ألقابهم وأسماؤهم تكتب بخط واضح على المشكاة، وكانت كل واحدة منها تحتوي على نص أو حديث نبوي، وأحيانا فتوى دينية أو نص رسمي يرد فيه اسم من صنعت له المشكاة، سواء كان من السلاطين أو من الأمراء وألقابهم والدعاء لهم.
زجاج يتحدى الزمن
واصل الزجاجون المسلمون إنتاجهم في العصر المملوكي حيث تمركزت عاصمة الخلافة في القاهرة، وبرعوا في تصميماتهم وأكدوا قدرتهم الفذة على الابتكار وإبداع أشكال فنية جديدة لم تكن معروفة من قبل في صناعة "المشكاوات" إذ تعد كل مشكاة قطعة فنية مستقلة بذاتها، تعكس قدرة الحرفي الفنان وخصوصيته وتعبيره الجمالي من حيث استخدام الأداة واللعب بالخط واللون.
ويقول الدكتور محمد حسام الدين إسماعيل، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة عين شمس والمستشار السابق للهيئة العامة للتخطيط العمراني، إن الزجاجين المصريين جاؤوا بهذا الفن ونهضوا به مع ارتقاء العمارة الإسلامية من مساجد ومدارس وجوامع وأسبلة ومارستينات وقصور وخانات وتكايا وغيرها من المنشآت التي تشمل المدارس وسكنى العلماء والمستشفيات.

عائلات الزجاجيين المسلمين
تركزت ورش الزجاجين بالقاهرة في مناطق الدراسة والجمالية والناصرية ومصر القديمة، بجانب الورش التي كانت موجودة بالإسكندرية وبعض المدن الكبيرة، وتوارثتها عدة عائلات أشهرها "أولاد الطحان الكبير"، فلقد اشتهرت ورشة الحاج إسماعيل الطحان وتواصلت الحرفة مع الأحفاد في إنتاج روائع الأعمال الزجاجية الفنية حتى أدركتهم الميكنة وإنتاجها النمطي فتوقف الإنتاج اليدوي نهائيا. وهناك أيضا عائلة "الداعور" بحارة بني قيدار بمنطقة باب الفتوح، وكانت الورش تملأ حارة القصاصين بالجمالية.
ويقول حسام الدين للجزيرة نت إن "حرفة الزجاج تتطلب براعة خاصة ومعرفة عالية باستخدام أدوات وطرق الإنتاج، بالإضافة إلى أنها من الحرف القليلة التي تتطلب موازين وخامات مستوردة ودقة في معالجة الخامة باستخدام الطاقة النارية والهواء الساخن بدرجات عالية جدا".
وتعالج المواد الخام بعدة طرق، منها النفخ باستخدام ماسورة حديدية، حيث يقوم بنفخ العجينة المتوهجة بالفرن حتى يصل للشكل المطلوب للمشكاة، أو بالضغط على قالب خاص يوضع العجين المتوهج بداخله حتى يتشكل بشكل القالب، وكل هذا يعتمد بالأساس على حرفية وخبرة الفنان في تشكيل العجينة التي بين يديه بالطريقة المراد إنتاجها.
وتعتبر الصبغة الزرقاء المستعملة في تشكيل المشكاة من الموروثات الشعبية، وهي صبغة متبقية من ساقط النحاس الخام عند معالجته، بالإضافة إلى ألوان أخرى منها اللون الأخضر والنبيذي المائل للبني أو الحمرة، حسب إسماعيل.
نور في عيون المؤمنين
وحول علاقة المتصوفة بالمشكاوات، يقول الدكتور عبد الديم "يضع الصوفية المشكاة في قالب رمزي يختلف عن الجانب الوظيفي لها، وهو ما يفسر أحيانا رسم المشكاة في بعض المقابر أو على جدران المساجد أو داخل محاريب سجاجيد الصلاة".
فالمشكاة عند الصوفية -حسب عبد الديم- هي قلب المؤمن الذي يملؤه نور الله وهو المصباح، في حين اعتبرها بعضهم روحا تشبه أنوارها الأنوار التي تبدو في عيون المؤمنين.
وظهر تأثير هذه الفكرة في رسم بعض المشكاوات داخل المحراب المرسوم على سجاجيد الصلاة في العصر العثماني، ومن أمثلة السجاجيد التي رُسمت عليها المشكاة سجادة من العصر العثماني عليها صف من المحاريب بداخل كل محراب منها مشكاة معلقة.
ويضم متحف الفن الإسلامي قطعتين من النسيج العثماني، قوام الزخرفة عليهما رسم صف من العقود نصف الدائرية ترتكز على أعمدة رفيعة وتتدلى من كل عقد منها مشكاة باللون الأبيض، عليهما كتابات بالخط المتقابل تُقرأ: "سبحان الحي الباقي الذي لا يموت".