"البصلة الزجاجية".. إدانة سينمائية لنخبة بلا أخلاق

رغم مظاهر الحداثة الواضحة في الأعمال السينمائية وخاصة في هوليود، فإن العودة للجذور والقفز بها نحو اللحظة الحالية هي سمة مميزة لأفلامها، ويعد فيلم "البصلة الزجاجية: أخرجوا السكاكين" (Glass Onion: A Knives Out Mystery) واحدا من هذه الأعمال، حيث يتبع نوعا محددا من البناء القصصي الأدبي نشأ في عشرينيات القرن الماضي، بينما لم تكن هناك سينما بالشكل الحالي أو تليفزيون.
ولعل ذلك الارتباط بين الأصالة والتحديث هو ما يمنح الأعمال الهوليودية الجديدة -مهما كانت أوجه التقصير فيها- مذاقا خاصا وشخصية واضحة وقوية.
وفي فيلم المخرج رايان جونسون والممثل دانيال كريغ الجديد "البصلة الزجاجية: أخرجوا السكاكين" اجتمع كل من الشاعر والقاص الأميركي "إدغار آلان بو" القادم من بدايات القرن الماضي مع المطرب الأسطوري جون لينون عضو فرقة البيتلز التي كانت هوسا لشباب الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
لم تكن "البصلة الزجاجية" (Glass Onion) إلا تعبيرا أطلقه فريق البيتلز على إحدى أغانيه في ألبوم "الألبوم الأبيض"، وهو لا يحمل معنى عميقا كما قد يشير البعض. وقد كتب جون لينون نجم الفريق كلمات الأغنية سخرية من هؤلاء الذين كانوا يبحرون عميقا في تفسيرات همايونية لا علاقة لها بما يقصده الفريق الغنائي، وإمعانا في السخرية صدرت الأغنية باسم لينون مكارتني.
و"البيتلز" فرقة من أشهر الفرق الغنائية في التاريخ، خلال عقد السبعينيات بـ13 ألبوم غنائي، صدرت خلال 10 أعوام من 1960 وحتى 1970.
من جاسوس إلى مخبر
كان الممثل البريطاني دانيال كريغ قد انتقل في أدواره السينمائية من العمل المخابراتي الخارجي باعتباره جيمس بوند أو "007" في المخابرات البريطانية إلى العمل الداخلي كمحقق خاص في الجرائم الجنائية تحت اسم بينوا بلان. وشارك كريغ في فيلم "أخرجوا السكاكين" (Knives Out) 2019، لكنه عاد إلى شخصية جيمس بوند في فيلم أخير له هو "لا وقت للموت" (No Time to Die) 2021، وتفرغ بعد ذلك لشخصية بينوا بلان.
وتنتمي القصة التي قدمها المخرج والمؤلف رايان جونسون في الفيلم مع دانيال كريغ إلى ما يعرف بـ"رواية المباحث" (Detective Fiction)، وهو نوع فرعي من روايات الجريمة والغموض التي يعمل عليها محقق -سواء أكان محترفا أم هاويا أم متقاعدا- في جريمة، وغالبا ما تكون جريمة قتل، وتتعدد نماذج هؤلاء المحققين الذين كان أشهرهم أوغست دوبين، وشارلوك هولمز، وهركيول بوارو، وغيرهم.
وكان رائد هذا النوع من الأدب هو الشاعر والقاص الأميركي "إدغار آلان بو" في عشرينيات القرن الماضي، وأشهر كتّابه في الإنجليزية الكاتبة أجاثا كريستي.
وتدور القصة حول دعوة يتلقاها 5 من الأصدقاء القدامى للملياردير مايلز برون ليكونوا ضيوفا عليه في جزيرته الخاصة باليونان. ويعرف الخمسة جميعا برون منذ زمن بعيد ويدينون له بثروتهم وشهرتهم ووظائفهم الحالية.
ويخطط برون للعبة خطيرة أثناء الزيارة تتلخص في إخبار الجميع، أنه تم قتله، وعليهم أن يعرفوا القاتل. المشكلة الحقيقية هي أن الأصدقاء الخمسة لديهم أسباب لقتله. ويحدث استثناء وحيد في بداية الرحلة وهو حضور بينو بلانك أعظم محقق خاص في العالم.
ولا يزعم الفيلم أي نوع من الجدية، وإنما يفتعل تلك الدعوة الغامضة للحفل من أجل لعبة مسلية، ورغم ذلك تقودنا التسلية إلى مساحات من الحزن والفرح والحب والحقد، والصداقات الزائفة، والثراء بمعناه الاقتصادي مقابل ثراء العقل والروح.
لعبة المونتاج
استخدم المخرج في المونتاج أكثر من أسلوب للحكي، فأحيانا نجد التتابع الزمني الدرامي هو الحاكم، وهو الطبيعي، وأحيانا نجد موقفا يستدعي عودة للوراء وهو جائز وقد يضيف جمالا للعمل وتفاعلا، لكنه تلاعب بالمونتاج ليصنع لغزا، ويترك المشاهد وحده حائرا، وهي مشكلة حقيقية في العمل، ذلك أن المونتاج الناجح هو الذي لا يشعر المشاهد بوجوده، لكن لعبة إخفاء المعلومات وإظهارها دفعت بإحساس غامض للمشاهد أن ثمة من يتلاعب به من غرفة مظلمة.
والسعي إلى تأثير وجداني معين على المشاهد هو أول حقوق المخرج، وبالتالي يحق له إعادة ترتيب المشاهد طبقا لذلك الهدف، لكن تلك الثقة المغالى فيها والاستهزاء بالمشاهد يدفعان بعض المخرجين إلى كسر قوانينهم التي وضعوها للعمل وكسر ذلك الخط الوهمي الذي يفصل بين احترام عقل المشاهد وعدم احترامه.
ولعل الكشف عن لعبة المحقق بينو بلان، ليتمكن من الحضور إلى الجزيرة في نهاية الفيلم هي واحدة من الألعاب التي لم تكن ضرورية، خاصة أن المحقق نفسه معروف للجمهور، وأنه لا يملك صفه تمنحه حق الحضور، حتى لو برر صانع العمل ذلك بمشهد سطحي غير معقول يسأل خلاله الملياردير برون المحقق عن سبب حضوره وهو غير مدعو، ليرد بينو بأنه مدعو، ويعرض عليه دعوة أرسلت إلى صديقة منتحرة.
وفي الروايات البوليسية مثل "البصلة الزجاجية: أخرجوا السكاكين"، كان صانع الفيلم والعمل الأدبي يقدم محقق البوليس كبطل مطلق للعمل مع أكبر عدد من المشاهد، ولكن مشاهد الفيلم سوف يرى بالتأكيد الممثل إدوارد نورتون (الملياردير مايلز برون)، الذي قدم أداء رائعا مطبوعا في الذاكرة بقدر لا يقل أبدا عن دانيال كريغ بل يزيد رغم أنه أي "برون" هو النموذج الشرير في الدراما.
ولعل تلك البطولة المشتركة جاءت نتيجة للبناء الموروث في الرواية البوليسية التي تشترط ألا يستطيع المشاهد -أو القارئ في حالة الأدب- أن يتوصل إلى المجرم إلا في نهاية الفيلم من خلال المحقق نفسه، لذلك انفرد كريغ بالمشاهد النهائية للعمل ليقوم بدور السارد الحقيقي لكيفية وصول الدعوة إليه، ويربط بين المعطيات ليكشف في النهاية عن القاتل الحقيقي، وهو ما يبرر التلاعب الزائد عن الحد الذي مارسه رايان جونسون ليقوم بتأجيل المعلومات التي يمكن أن تكشف عن الفاعل إلى النهاية، وفي المقابل يضع أدلة زائفة تثير الشك في الآخرين.
جونسون الذي كتب الفيلم قام بتقشير البصلة لتكشف كل طبقة عن حقيقة جديدة، حتى وصل إلى نهاية تدين أثرياء التكنولوجيا والمؤثرين الجدد في المجتمعات وتؤكد على زيفهم وشرورهم.
ملياردير سارق
تم تصوير أغلب مشاهد الفيلم في فندق ومنتجع حقيقي يسمى "أمانزوي" بعد تغيير اسمه إلى "كلاس أونيون"، ورغم أنه لا يقع على جزيرة يونانية إلا أنه لا يزال يتمتع بإطلالات غير عادية على كل من البحر مع صفوف من بساتين الزيتون، وهو ما جعل مشهد استقبال الضيوف رائعا بخلفياته المدهشة، والفضاءات التي صنعت مساحات للتنفس، ومنحت المشاهد فرصا لتأملها بين لهاث الدراما وانتقال الاتهامات بالقتل من شخص إلى آخر.
مايلز برون ليس ثريا عاديا، ولكنه مهووس بالتكنولوجيا والتحف وكل الأشياء الثمينة التي تباع في صالات المزادات، لكن الفيلم يكشف حقيقة موازية وهي أنه يملك أصدقاءه، ويسطو على ما يملكون، حتى إنه تحول إلى ملياردير نتيجة سطوه على فكرة واحدة من إحدى الصديقات، وحين طالبت بحقوقها، تم دفعها للانتحار، فسعت شقيقتها للانتقام عبر اللجوء إلى بينو بلان.
الأصدقاء الخمسة ليسوا مجرد أغنياء تابعين لشخص أكثر غنى، ولكنهم مؤثرون على وسائل التواصل الاجتماعي وعارضو أزياء، وهو ما يعني تأثيرهم على المجتمع والتأسيس لقيم مشوهة.