الزّنقاوي.. غناء من وحي الألم والأمل في الجزائر

الجزائر- "نباطي معليش نقاسي، حقي نديه، نعرف روحي ونعرف هواسي"، أو "لا بأس أن أكافح وأقاسي، وأحصل على حقي، أعرف نفسي وأحاسيسي".. هذه ليست كلمات أغنية طابع "الرّاي" الجزائري أو حتى نوع "الرّاب" الموسيقي العالمي الذي يؤلَّف محليا باللهجة الجزائرية.
هي كلمات إحدى أغاني الفنان الجزائري الصاعد "جليل باليرمو"، حتى إن لقبه الفني "باليرمو" يوحي بنوع موسيقي مختلف أو جديد، إذا ما أخذ بعين الحسبان لقب "الشاب" أو "الشابة" الذي يستبق في الغالب أسماء فنّاني "الرّاي" في الجزائر، مثل الشاب خالد، والشاب مامي، والشابة الزهوانية وغيرهم.
"باليرمو" و"موح ميلانو" وغيرهما، يقول المتابعون والمختصون إنهما "عنوان" لنوع غنائي جديد طفا على الساحة الفنية بالجزائر في الأعوام الأخيرة بأسماء مستمدة من مدن في الضفة الشمالية للمتوسط ولشباب في العشرينيات من أعمارهم، يسمى "الزّنقاوي"، وهي تسمية مستمدة من اللهجة الجزائرية، في إشارة إلى "الزّنْقة" التي تعني الشارع.
ويؤكد المختصون الذين تحدثت معهم الجزيرة نت أن مضامين أغاني "الزّنقاوي" ليست إلا ترجمة لهموم وآلام وأحلام وآمال فئة واسعة من الشباب الجزائري، تبّنتها استوديوهات التسجيل وحوّلت تلك المشاعر المتراكمة والمتداخلة إلى أغانٍ.
لكنها قبل ذلك "مرّت عبر شارع السياسة"، وهي الأغاني التي تحمل كثيرٌ منها إشارات أو معانٍ سياسية مشفرة أو واضحة، كما أن كثيرا منها يبوح بآمال العبور إلى شوارع أوروبا التي يراها كثير من شباب الجزائر والمنطقة "جنّة في الضفة الأخرى".
نوع موسيقي جديد بات "منافسا شرسا" لنوعي "الرّاي" و"الرّاب"، جمهوره يُحسب بالملايين وفق ما تؤكده نسب متابعة هذه الأغاني على "يوتيوب"، كان من أبرزها أغنية "ماشافوهاش" (لم يروها) لـ "موح ميلانو" التي صدرت العام الماضي، وفاقت نسب مشاهدتها على "يوتيوب" 400 مليون مشاهدة.
حتى إنه أصبح نوعا موسيقيا مثيرا للجدل أحيانا والنقاش أحيانا أخرى في الساحة الفنية أو عبر منصات التواصل الاجتماعي، وسط تباين في الآراء بين من يتوقع له "مستقبلا عالميا" وبين من يرجح أن يكون "مجرد ظاهرة فنية آيلة للزوال".
مهد "الزّنقاوي"
يقول المؤلف الموسيقي والمايسترو والباحث في العلوم الموسيقية بالجزائر سليم دادة للجزيرة عن غناء الزّنقاوي "أصول هذا النمط الغنائي تعود إلى عودة أمجاد كرة القدم الجزائرية ورجوع الفريق الوطني إلى المونديال سنة 2010 بعد انقطاع دام 24 سنة".
ولفت إلى أن هذا النمط الغنائي "وليدُ الملاعب وغناء تشجيعات المناصرين، والذي بقي متعلقا بالملاعب إلى سنة 2020، حيث دخل عالم الفن مع تسجيلات محترفة وكليبات فيديو مصنوعة بجدية وإنتاج ودعاية مدروسين، مع مواضيع تجاوزت كرة القدم والملاعب، بل وتهتم وتحكي هموم الشاب الاجتماعية، ورواية نجاح الذات، ومن هنا ظهرت كلمة "الزنقاوي" أي غناء الشارع أو الأحياء الشعبية".
مخاض اجتماعي وفني
وعن سر ارتباط معظم أغاني "الزّنقاوي" بالهجرة غير الشرعية، قدّم سليم دادة قراءة بأبعاد سياسية واجتماعية وحتى نفسية لمضامين أغاني هذا النوع الموسيقي الجزائري الجديد.
واستدل بأغنية "كازا ديل المرادية" لفرقة "أولاد البهجة"، ومشيرا إلى أنها أغنية بمضامين سياسية كانت رائجة بشكل كبير في الملاعب سنة 2018، وهي أغنية تتحدث عن معاناة الشباب ما بين الأحلام والخيبات وواقع مُثقل بالآفات، عن نقد للوضع السياسي آنذاك وللتفاوت ما بين واقع الطبقة الحاكمة وعامة الشعب"، وفق ما يقول الموسيقار الجزائري.
واستطرد أن هذه الظاهرة الفنية الجديدة مع نهاية فبراير/شباط 2019، تبناها الحراك الشعبي وتبنى هذه الكلمات وهذه الأغنية التي أضحت بمثابة نشيد للمسيرات السلمية التي شهدتها الجزائر لمدة عام كامل.
وكشف دادة أن المغني العالمي من أصول جزائرية "سولكينغ" "سيعيد أداء أغنية "ليبرتي" (حرية) التي قال إنها "حققت نجاحا باهرا وحصدت ملايين المشاهدات على اليوتيوب خلال أسابيع قليلة".
ويعتقد "المايسترو" بأن رواج نوع "الزّنقاوي" "والتلقي الإيجابي" لهذا النوع من الغناء؛ حدثا لأنه "إخراج لأغاني المناصرين من الملاعب وإدخالها الى الاستوديوهات، حيث تُصنع الأغاني بشكل أكثر احترافية، وتعالج مواضيع أكثر وقعا على الشباب خاصة والمجتمع عامة".
منافس شرس
ويتوقع سليم دادة الباحث في العلوم الموسيقية أن يتمكن "الزّنقاوي" من منافسة "الرّاي" و"الرّاب" معا، لكنه أشار إلى أن "الزّنقاوي" يستعمل نفس أدوات الإنتاج والاستوديوهات، وحتى الموسيقيين والموزعين ذاتهم تقريبا.
"لكن ما يصنع الفارق اليوم هو قابلية دخول كلمات ومواضيع الزنقاوي إلى حرم البيت العائلي وأمواج الإذاعات لغياب الكلمات النابية التي يمكن أن توجد في النوعين الآخرين، لكن للراي كما للراب جماهيرهما منذ عشرات السنين، وعلى الزنقاوي أيضا صنع جمهوره الخاص به، ومهرجاناته وحفلاته الخاصة به أيضا، وهذا يتطلب وقتا وجهدا وتخطيطا".
ثوب واحد
على النقيض من ذلك، للمخرج الجزائري محمد والي رأي مختلف عن نوع "الزّنقاوي" الغنائي، وربط فترة ظهوره بجائحة كورونا، حتى إنه وصف هذا النوع الغنائي الجديد بـ"موسيقى كورونا".
وأشار في حديث للجزيرة نت إلى أن ظهور "الزّنقاوي" كان خلال فترة جائحة كورونا، مرجعا ذلك إلى أنه في تلك الفترة "أغلقت الملاعب، وهو ما أدخل تلك الأغاني من الملاعب إلى الاستوديوهات التي يغلب على مضامينها الافتخار والاعتزاز بالرجولة".
وأبدى تحفظه على أغاني "الزّنقاوي" التي قال إنها "تدعو وتشجع على الهجرة السرية إلى الضفة الشمالية من المتوسط".
محمد والي المهتم أيضا بالشأنين الثقافي والفني بالجزائر، يرى أن أغاني "الزّنقاوي" "شبيهة ببعضها ووقعت في فخ التكرار"، واستدل على ذلك بأغاني "موح ميلانو" التي قال إنها "تشبه بعضها البعض، ومن الصعب أن يخرج من الثوب أو القالب الغنائي الذي استمر فيه، وما نخشاه أن يكون الزّنقاوي ظاهرة أكثر من كونه طابعا غنائيا".
ورأى أن "الوقت كفيل بأن يؤكد أن كان الزّنقاوي ظاهرة خرجت بسبب كورونا، أم هو طابع موسيقي له قواعده وأساسياته وتنوع في مواضيعه ومضامينه، ومن الصعب الحكم عليه الآن".
ويرى أن هذا النوع الغنائي الجديد "موجه لفئات معينة من المجتمع تقطن في العشوائيات أو الطبقات البسيطة"، ولفت أيضا إلى ما سماه "المعضلة الحقيقية للزنقاوي".
وقال إن الزّنقاوي "لا يخاطب المتذوقين للفن والطرب، وكلماته لا أراها تدغدغ الأذن"، وتوقع في المقابل أن يكون "الزّنقاوي" "ظاهرة خرجت في سياقات معينة وتزول مثل غيرها من الظواهر الفنية التي عرفتها الجزائر في تاريخها".