فيلم "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية".. 92 عاما ولم تطفأ نار الحرب

فيلم All Quiet on the Western Front
فيلم "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" ملحمة مذهلة للتحذير من أهوال الحرب (مواقع التواصل)

قبل أكثر من 9 عقود، وتحديدًا عام 1929، وبينما كان كابوس الحرب العالمية الثانية يطارد البشرية، نُشرت رواية "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" للكاتب الألماني إريك ماريا ريمارك، وحققت انتشارًا واسعًا، بعدما أثارت جدلًا كبيرًا شجع المخرج الأميركي من أصل روسي لويس مايلستون على إصدار أول فيلم سينمائي مُقتبس منها في العام التالي مباشرة (1930).

شكّل الفيلم آنذاك أحد المعالم البارزة في صناعة الأفلام الصوتية الأميركية المبكّرة، وأول ملحمة مذهلة للتحذير من أهوال الحرب. وعدّه الناقد بيتر برادشو مُلهمًا رئيسًا للجنون العبثي الذي صوّرته معظم الأعمال المعادية للحرب لاحقا، وفي مقدمتها "كاتش-توينتي تو" (Catch-22) الذي أُنتج عام 1970.

وبخلاف ما اعتدناه في الأفلام الحربية من تسليط الضوء على جانب مُحدد من الحرب، قدم هذا الفيلم على مدى ساعتين ونصف الساعة صورة بانورامية للحرب من جوانبها كافة، واضعًا مذابحها الوحشية نصب عينيه، من خلال تقرير عسكري واقعي وفظيع للمترجم الأسترالي آرثر وين ختمه بقوله "الجبهة الغربية هادئة، لأن كل من فيها موتى".

فاز الفيلم بجائزتي "أوسكار"، وحقق نجاحًا جماهيريًّا إلى حد الاعتقاد بأنه سيكون رادعًا لأي حرب مستقبلية "قبل أن يتضح خطأ ذلك، وأن الكاتب ريمارك نفسه لم يقصد كتابة وصية سلمية، بقدر ما كان يريد أن يصوّر معاناة المجنّدين الشبان في الحرب"، كما يقول الناقد غلين كيلي.

تكرار التحذير من أهوال الحرب

رغم فشل الفيلم والرواية في إطفاء نار حرب عالمية ثانية دارت رحاها "في القذارة والحشرات واليأس"، على حد وصف الناقدة ويندي إيدي، بعد صدورهما بنحو 10 سنوات؛ فقد أثخنت الحرب الأرض بالجراح، وروتها بدماء 4 أضعاف القتلى الذين قضوا في سابقتها، وأعيد إصدار نسخة تلفزيونية من الفيلم للمخرج الأميركي "الكئيب" ديلبرت مان، بعد نحو نصف قرن (1979)، وقبل شهر واحد من الغزو الروسي لأفغانستان.

وها نحن، بعد قرابة قرن من صدور الرواية، أمام أول إصدار ألماني الصنع من فيلم "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" (All quiet on the western front) 2022، للمخرج والكاتب الألماني إدوارد بيرغر، والذي وصفه برادشو بأنه "قوي وبليغ وعاطفي".

حظي الفيلم الجديد بتقييمات عالية عند عرضه للمرة الأولى في أكتوبر/تشرين الأول الماضي على منصة "نتفليكس"، واعتمدته ألمانيا ليكون الفيلم الرسمي المُمثل لها في مسابقة الأوسكار لهذا العام، وسط أجواء عالمية مشحونة، تكاد تشبه تلك التي كانت سببًا في إطلاق صرخته الأولى.

يكرر الفيلم تحذيره من ويلات الحروب من دون يأس، من خلال مشاهد تحتوي على مستوى من العنف لا يتصوره عقل، آملًا أن ينجح هذه المرة في مساعدة البشرية في نبذ الحرب والجنوح نحو السلم.

افتتاح وحشي

ربما لا يوجد شيء يضاهي رجفة هذا التسلسل الافتتاحي الوحشي الذي يتنقل من المناظر الطبيعية، والغابة والجبال الهادئة، وشروق الشمس، وجراء ثعالب ترضع، إلى مشهد جوي لدخان ينقشع عن مجموعة من الجثث، ثم وابل من الرصاص يخترق التكوين شبه الساكن فجأة، قبل أن تستدير الكاميرا لتُظهر المدى الكامل للمذبحة والوحل، "وكأنه يهدف إلى إثارة أعصابنا بوحشية حرب لا هوادة فيها، لانتهاك الطبيعة"، حسب وصف الناقد بن كينيغسبيرغ.

ويتتبّع الفيلم السترات الملطخة بالدماء والممزقة بالرصاص إلى مغسلة عسكرية، "ليوضح بشكل صارخ أن حياة الجندي أقل قيمة من الزي الذي مات فيه"، على حد قول الناقدة ويندي إيدي.

يتسلّم بول زيّه العسكري على عجل "إثر نزعه من جثة جندي ميت، مقاسه أكبر، بعدما أعيد غسله ورتقه، واسمه لم يزل على الياقة"، حسب برادشو الذي يرى الفيلم "عملًا جوهريًّا وجادًّا، ودراما بنكهة الهوس القاتم بالموت، جسّدت مشاهد ساحة المعركة بإلحاح وتركيز، ونجحت تمامًا في إيصال رسالتها". فقد وظف بيرغر (المخرج) أحدث ما توصلت إليه التقنية "للقذف بنا في قلب مذبحة تبدو واقعية، إلى درجة تُشعرك بأنها سوف تتسبّب في تلف سمعك"، كما يقول كيلي.

فالفيلم يدور حول شخصية حقيقية هو بول بومر (الممثل النمساوي الصاعد فيليكس كاميرر)، الصبي الألماني المراهق الذي تنتابه مشاعر وطنية جياشة، أجّجها أستاذ وطني متحمس للغاية، يدعو الشبان الصغار إلى الانخراط في الجيش وإنقاذ الوطن، فينضم إلى أصدقائه في المدرسة، مُتصورًا أنه سيمضي في رحلة سهلة ومبهجة إلى باريس، من دون أن يخطر في باله أن كابوسًا من الفوضى وإراقة الدماء ينتظره هناك، وأن كل ما تعلموه من ثقافة وتقدم سيتحطّم تحت القصف في الخنادق.

ذروة الغثيان

توصل المفاوضون الألمان، بقيادة نائب المستشار، ماتياس إرزبيرغر (دانيال برول دور)، إلى عقد اتفاق هدنة مع الفرنسيين. وعلى الرغم من أن إرزبيرغر شخصية غير موجودة في الرواية، فإن المخرج أضافها، في إطار التشويق "وإثارة الجمهور المتلهّف إلى دخول الهدنة حيّز التنفيذ، لإنقاذ الشخصيات التي أصبح متعاطفا معها".

ويظهر الفيلم أن هناك بعض "الألمان الطيبين" الذين يجنحون للسلم، لإحداث توازن مع التعاطف المتوقع من الجمهور مع البطل بول، وهو جندي ألماني. كما يوثّق عناد الفرنسيين، معيدًا إلى الأذهان الإذلال الذي تعرضت له ألمانيا طوال سنوات بسبب اتفاق الهدنة، الذي كان سببًا في صعود هتلر"، وفق تحليل كيلي.

تصل القصة إلى ذروة الغثيان بعد التوقيع على الهدنة، عندما يضعنا بيرغر أمام بول، رمز البراءة الواسع العين، المُدَمّر من الرعب الشديد، بوجهه المغطى بقناع مخيف من الدم والوحل، المُخدّر بالجوع والصدمة، وهو يرى أصدقاءه يُذبحون الواحد تلو الآخر. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال يتمسك بشيء واحد، هو "محاربة الكراهية التي لم يعد لها معنى".

يتلقى الصدمة من قائده الغاضب لرفض المارشال الفرنسي فرديناند فوش (تيبو دي مونتاليمبيرت) بازدراء منح أي تنازلات للألمان، فيطلب من قواته المُنهكة خوض معركة أخيرة لإنقاذ شرف الوطن، قبل بدء سريان الهدنة، ليقول بول "أنا شاب عمري 20 سنة، لكنني لا أعرف عن الحياة سوى اليأس والموت والخوف، والسطحية السخيفة التي تجعلني على هاوية الحزن".

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية