الزاهدون.. كيف تصبح سعيدا بامتلاك الحد الأدنى مما تحتاجه؟

على الرغم من وجاهة الفرضية التي يمثلها الفيلم في نحو ساعة، أو حتى ما يمثله المذهب الأكبر ومن يؤمنون به، والسعي الحثيث إلى إنتاج عدد من الكتابات والأفلام التي تؤيد الفكرة أو تروي تجارب أصحابها؛ فإنها من جانب بعيد نسبيا يمكن أن تثير بعض الشكوك.

ملصق فيلم "الحد الأدنى" (الجزيرة)

هل سمعت سابقا بكلمة "الحدنوية" (minimalism)، أو معناها العام؟ يمثل هذا اللفظ الجديد المشتق من عبارة "الحد الأدنى" مفهوما شاملا يشير إلى التحرر من الأشياء الزائدة عن حاجة الإنسان الأساسية عموما، أو ما يعني -بوجه من الوجوه- "الزهد". فإذا كان اللجوء إلى الشراء يعد طريقة مغرية لحل المشكلات والهروب من واقع الإنسان، فإنه وفق الحدنوية يفضي إلى دائرة مغلقة، يحاول معتنقو هذا المفهوم التخلص من هذه الدائرة التي تبدأ بالشراء وتراكم الأشياء لدى الإنسان إلى ما لا نهاية.

في فترة وجيزة، أصبح مؤيدو هذا المذهب في العالم يناصرونه ويبشّرون به ليصبح أكثر رواجا في مواجهة مجتمعات تزداد الرأسمالية فيها شراسة وجشعاً، في موقف يكاد يكون صدامياً، إذ تريد المجتمعات الرأسمالية الحديثة من الإنسان أن ينشغل بالبحث عن حاجات جديدة "تجلب السعادة"، فيما يقف مذهب "الحدنوية" ليقول إن التخلص من كل هذا هو السبيل "الحقيقي" للسعادة.

قناعة الزهد

هل يمكن أن يصبح الإنسان سعيدا في سعيه إلى امتلاك الأقل من كل شيء حوله؟ تبدأ رحلة اعتناق هذا المذهب من محاولة الإجابة عن هذا السؤال بلا تردد، وربما من خلاله يمكن التعرف أكثر على كيفية تحقيق هذا الأمر من دون معاناة مع المجتمع الأكبر الذي نعيش فيه، مما يتطلب رؤية نماذج استطاعت الإقدام على تلك المواجهة.

في فيلم " الحد الأدنى" (The Minimalists: Less is Now) الذي عرضته منصّة "نتفليكس" في 2021، شاهدنا مرة أخرى في صيغ مختلفة اثنين من معتنقي "الحدنوية" وهما يوضحان أنماط الإدمان الاستهلاكي التي يعيشها الأشخاص في المجتمعات الرأسمالية، والأسباب الجذرية لتلك الأنماط، وإمكانية الاستمتاع بالحياة الأكثر بساطة من خلال التخلي عن كل ذلك بلا عناء كبير.

بساطة

هذا الأمر يعكسه الصديقان -بطلا الفيلم- في قصصهما الشخصية، لإثبات مزايا أسلوب الحياة البسيطة، وهو يغطي مجموعة من الأنماط المتعلقة بالنزعة الاستهلاكية والادخار والرأسمالية التي تغلَّبا عليها بالمثابرة والتفكّر أكثر في جدوى الاستهلاك الذي كانا يظنان أنه يحقق السعادة، بينما لم ينعكس ذلك على حياتهما.

ينطلق الفيلم التسجيلي من فرضيات متعددة واجهها الصديقان قبل أن يصبحا زاهدَين في الحياة التي يعيشها المجتمع "الاستهلاكي". ويمكن إيجاز هذه الفرضيات ببعض الأسئلة المباشرة: متى أعطيت هذه الأهمية لكل هذه الأشياء المادية؟ ما المهم حقا في حياتي؟ لماذا كنت أشعر سابقا بهذا المقدار من عدم الرضا؟ ما الشخص الذي أريد أن أصبحه؟ وما الذي يحدد معيار ذلك؟

زهد بصري وموسيقي

وكأن الفيلم أراد أن يعكس فكرة الزهد أيضا من خلال طريقة التصوير وعرض اللقطات، فمشاهده تنتقل بين أماكن محدودة أغلبها مغلق، وبكاميرا وحيدة تتابع مباشرة كل بطل على حدة، نستمع إلى قصته في حديث مباشر مع الجمهور من دون أي تلاعب بصري معتاد، كما أن الموسيقى المصاحبة لم تبتعد عن هذا المنوال، واكتفت بالبساطة و"الزهد" في الألحان.

وعلى الرغم من وجاهة الفرضية التي يعرضها الفيلم ويشرحها في نحو ساعة، أو حتى ما يمثله المذهب الأكبر ومن يؤمنون به، والسعي الحثيث إلى إنتاج عدد من الكتابات والأفلام التي تؤيد الفكرة أو تروي تجارب أصحابها، فإنه من جانب بعيد نسبيا يمكنها أن تثير بعض الشكوك.

شكوك

قبل سنوات، حصل فيلم "أرض الرحل" 2020 (Nomadland) للمخرجة الصينية كلوي تشاو على جوائز دولية وعالمية، لم يكن ذلك لجودته الفنية، بل لإتاحته عرض الفكرة ذاتها في إطار قصة تجارية تبشّر وتراهن على الزهد الشعبي وتنازل الناس -وفق البطلة وقصتها- عن نمط حياتهم ومنازلهم مقابل حياة "مريحة".

يدعو ذلك إلى التساؤل: لماذا انتشرت أخيرا الأفلام التي تتحدث عن "الحدنوية" أو الحد من الاستهلاك؟ عدد ليس قليلا من المواد التسجيلية تضخ بكثرة حول هذه الفكرة، التي ربما تصلح لتهدئة الأوضاع السياسية المضطربة نسبيا، وربما لا يبدو الأمر زهدا بالمعنى الحرفي للكلمة، بمقدار ما يمكن اعتباره مسكنا وتهدئة للأوضاع التي يعيشها البشر عموما اليوم.

فهل تنجو هذه الفكرة من فخ السذاجة التي تستغلها بعض المجتمعات لتهدئة أوضاع لا يمكن حلها أساسا؟ ثمة قاعدة تقول إنه "لا زهد لمن لا يملك"، إذ ربما يصلح أن يختار الإنسان أن يصبح زاهدا لو كان في إمكانه أن يختار العكس.

وربما أيضا من الأولى أن يطرح على نفسه السؤالين التاليين: هل يمكنني أن أعيش بالأقل؟ وهل يساعدني الوضع العام على العيش بالكثير؟ أم يمثل العيش بالقليل فكرة إجبارية تجعلها هذه الرؤى أكثر شرعية وقبولا من دون أن أدري ذلك؟

المصدر : الجزيرة