"الاستحواذ".. غرام سينمائي بالقراصنة والمخترقين

صناعات السينما الصغيرة والطموحة في العالم تهدي المشاهد تنويعا واطلاعا على ذائقة مختلفة، حيث لغة أخرى تتذوقها الأذن، وذائقة بصرية قد تكون أكثر اهتماما بالجماليات من السينما الأميركية، و في فيلم "الاستحواذ"، تهدي المشاهد دراما أكثر حدة، وتظهر قسوة العزلة التي يعيش فيها البشر، لأن الصداقة الإلكترونية والوحدة رفيق دائم للبطلة.

الملصق الترويجي لفيلم "الاستحواذ" (نتفليكس)

لو أبحر الإنسان بخياله بحثا عن أشباح للأفلام، لكان فيلم "الاستحواذ" (The Takeover) شبحا لمجموعة من أهم أفلام الأكشن الهوليودية، ورغم ذلك يبقى نسخة جيدة من الأكشن الهولندي الفقير عددا، والمتأثر -إلى حد التطابق والاستنساخ- بالمنتج الهوليودي.

ولأن السينما ليست فنا فقط، وإنما صناعة وتجارة، فإن ذلك يحملها أعباء نكبات الصناعة وتقلبات السوق التجاري، وخاصة التقليد الذي تضطر إليه الأسواق الصغيرة في بلاد مثل هولندا، نظرا لمحدودية قدراتها ومحدودية السوق المستهلك، فهولندا بلد صغير لا تصل مساحته إلى 1% من مساحة أوروبا، ولا يتجاوز عدد سكانه نسبة 3.3% من سكان دول الاتحاد الأوروبي، وتنتشر على أراضيه نحو 800 دار عرض، وهو رقم متواضع نسبيا.

ورغم الأسماء الهولندية الكبرى في مجال الفنون البصرية مثل الفنان التشكيلي الأشهر رمبرانت، فإن السينما -بما لها من متطلبات إنتاجية- لم تنجح في النفاذ إلى مقدمة الصفوف في العالم إلا عبر حالات فردية، واقتصرت الأضواء على المهرجان التوثيقي الأشهر في العالم وهو مهرجان أمستردام للسينما الوثائقية (IDFA).

ماي برود (أو ميل) في موعد غرامي صادم (نتفليكس)

وصناعات السينما الصغيرة والطموحة في العالم تهدي المشاهد تنويعا واطلاعا على ذائقة مختلفة، حيث لغة أخرى تتذوقها الأذن، وذائقة بصرية قد تكون أكثر اهتماما بالجماليات من السينما الأميركية، وفي فيلم "الاستحواذ"، تهدي المشاهد أيضا دراما أكثر حدة، حيث تظهر قسوة العزلة التي يعيش فيها البشر، لأن الصداقة الإلكترونية والوحدة رفيق دائم للبطلة.

شرير محبوب

ورغم ذلك لا تتوقف المحاولات الهولندية للحاق بسوق السينما في العالم، ومن بين هذه المحاولات يأتي فيلم "الاستحواذ" (The Takeover) للمخرجة آن ماري فان دي موند، الذي جاء تعبيرا معتادا عن ذلك الغرام السينمائي بشخصية المخترق الإلكتروني (الهاكر)، ومعبرا عن ذلك الغموض الذي يلف حياته.

قدمت دي موند واحدا من الأفلام التي صنعت بحرفية عالية وإتقان مدهش على مستوى الصور، وخاصة مشاهد الأكشن، وإن جاءت أغلب لقطات العمل عامة أو متوسطة المدى، وتركت فقرا في المشاعر بين المشاهد وشخصيات الفيلم، ومن بينها البطلة.

وتدور أحداث فيلم "الاستحواذ" حول المخترقة الإلكترونية (الهاكر) ميل باندسون (الممثلة هولي ماي برود) التي تقوم بإبطال مفعول قرصنة شريرة على حافلة ذاتية القيادة عالية التقنية، وتغلق -بدون قصد- شبكة إجرامية دولية. وبالتالي، تتعرض للانتقام، ويتم تلفيق تهمة قتل ضدها، وحين تلجأ للشرطة، تفاجأ بأفراد الشبكة الإجرامية داخل قسم الشرطة.

القرصنة بين الخير والشر

يحتوي الفيلم على نوعين من القراصنة، كليهما شرير بالنسبة للمعايير القانونية والرسمية: النوع الأول هو الشابة ميل باندسون التي اخترقت أنظمة قاعدة عسكرية في مراهقتها وأوقفت عملها لما يسببه صوت الطائرات من إزعاج للطيور، وحين تجاوزت سن المراهقة، شكلت ما يشبه تنظيما عصابيا يقوم باستهداف شبكات الشركات والبنوك التي تؤذي المجتمع من دون رادع قانوني.

النوع الثاني من القراصنة -الذي يمثل الخصم المهدد لبطلة الفيلم والمجتمع- هو تلك الشركة التي وضعت فيروسا للسطو على البيانات الشخصية لراكبي الحافلات ذاتية القيادة، ويتم جمع تلك البيانات لصالح الحكومة الصينية، وهو أيضا عمل غير قانوني.

الممثل فرانك لاميرز (أو بادي) المخترق الإلكتروني الأشهر في الفيلم (نتفليكس)

تنتمي شخصية الهاكر ميل باندسون إلى نمط "الشرير الأخلاقي" (Ethical villain)، وهو واحد من 4 أنماط تم تصنيف أشرار الأدب البوليسي طبقا لها، والمثال الأشهر لذلك النموذج هو روبين هود، الذي كان يسرق الأموال والممتلكات ليوزعها على الفقراء، وهو في هذه الحالة يطبق العدالة حسب مفهومه الخاص ومن دون اللجوء للعقد الاجتماعي أو القانون الذي تعارف عليه المجتمع واتفق عليه، وهو بطل للفقراء، لكنه أيضا مجرم بشكل ما.

والشرير الأخلاقي واحد من 4 أنماط يسبقها في الظهور الشرير الخالص وهو الذي يمارس الشر نظرا لطبيعته، والشرير تبعا للموقف وهو يختصم البطل نظرا لتعارض المصالح بينهما، وأخيرا الشرير الطبيعي أو القوى الطبيعية كالزلازل والبراكين التي يواجهها الأبطال.

والشرير الأخلاقي في فيلم "الاستحواذ" هو تلك الفتاة التي تحمي مجتمعها من السلطات القائمة عليه، مستخدمة في ذلك مهاراتها في الحاسوب والبرمجة، وفي المقابل، لدينا في العمل شرير أصيل يمارس طبيعته في إيذاء البشر، وهو تلك الشبكة الإجرامية (خصم البطل) التي تم الإضرار بمصالحها مصادفة، بينما كانت باندسون تنقذ ركاب الحافلة ذاتية القيادة من تسريب بياناتهم.

تحولت باندسون إلى بطل ورمز للخير، رغم خروجها على القانون، وصنفت العصابة بكونها خصم البطل، رغم كونها ظلت تحت حماية الشرطة -وهي المسؤول عن تنفيذ القانون- لما يقرب من ثلثي العمل.

نسخ أصلية

يبدأ الفيلم بمجموعة من المشاهد داخل قاعدة عسكرية، تم تصويرها بطريقة تلقي الرهبة في نفس المشاهد، مساحات واسعة ووجوه قلقة، وقطع سريع للقطات بين الوجوه المكفهرة والأجهزة التي أصيبت بفيروس، ومن ثم انطفأت، ليتم استدعاء أشهر "هاكر" في البلاد واسمه "بادي" (الممثل فرانك لاميرز).

بعد مرور 10 أعوام، نجد " الهاكر" الصغيرة (ميل) صاحبة الواقعة وقد أصبحت مسؤولة عن سلامة البرامج في شركة تابعة للاتحاد الأوروبي، وفي سياق عملها تكتشف اختراقا، وتعالجه باختراق مضاد.

يستدعي الفيلم مباشرة نسخة أكثر حيوية وهي فيلم " الشبكة" (The Net) عام 1995 للممثلة ساندرا بولوك، لكن الأخير يحوي إثارة منذ لحظة بدايته وحتى النهاية.

يتجلى الفارق الهائل بين الفيلمين في العديد من الجوانب، لكن أكثرها بروزا هو المعقولية، ففي حين يطرح فيلم " الشبكة" فكرة تبدو للأغلبية من المشاهدين غير معقولة الحدوث، مما يضع الفيلم في تصنيف فانتازي، ليبقى مجالا للترفيه والمتعة والخيال عبر قصة امرأة تصحو من نومها لتجد أن كل ما يتعلق بها من وثائق شخصية لم يعد موجودا، وتخوض رحلة لإثبات وجودها، كان الفيلم حينذاك صرخة استغاثة من اختصار الإنسان في مجموعة من الوثائق الرقمية التي يمكن إزالتها بسهولة.

البطلان يقفان في ملجأ مؤقت بدلا من الوقوع بين يدي القتلة (نتفليكس)

أما فيلم "الاستحواذ"، فهو عن أحداث قابلة للتجلي على أرض الواقع من مصادفة صناعة شبكة إجرامية لفيروس بهدف سرقة البيانات الشخصية للمسافرين، وحتى اكتشافه صدفة ومحاولة إبطال عمله، لكن الذي ليس معقولا هو تلك النهاية الرومانسية الساذجة في النهاية، حيث ينتهي الفيلم بكل ما يتمناه المشاهد وأكثر.

وفي محاولة تبدو متعمدة تماما لكسر حدة العزلة التي تعيشها البطلة، يتم "تلفيق" موعد غرامي ينتهي قبل أن يبدأ مع الشاب توماس دين (الممثل جيزا واين) الذي يختلف عنها تماما ويبدو كذابا، وفظا، لكنها تضطر للجوء إليه بعد أن تتعرض للتهديد وتغلق الأبواب في وجهها.

تستمر العلاقة بينهما مع تلاحق الأحداث، وبينما كانت تظهر اشمئزازا منه، وهو ما أكدته الكاميرا والسيناريو بمشاهد لا لبس فيها، فإن الحب ينشأ، وهي الإشارة الأكثر قسوة في العمل الذي يقول ببساطة: "عليك أن تقبل ما تهبك إياه الحياه مهما كان قبحه واختلافه، فهو أفضل من لا شيء".

المصدر : الجزيرة