بتهمة "الإساءة لسمعة مصر".. أزمات يوسف شاهين مع الرقابة
القاهرة – "لم أتعود -على امتداد ما يقرب من نصف قرن- أن أعبر عن نفسي بغير لغة السينما، ولعلي لا أعرف لغة غيرها أستطيع التعبير بها، وربما لهذا السبب لم أرد على أي نقد وجه لأفلامي مهما اشتط الناقدون".
بهذه السطور افتتح المخرج المصري الراحل يوسف شاهين مقالا نشرته جريدة الأهرام في 30 فبراير/شباط 1995، ليرد على حملة الاتهامات التي طالت فيلمه "المهاجر"، لا سيما بعد أن اتهمه الكاتب فهمي هويدي على صفحات الأهرام بتجسيد شخصية النبي يوسف -عليه السلام- من خلال الفيلم، لينفي شاهين هذا الاتهام، مؤكدا اختلاف سيرة يوسف عن قصة الفتى رام بطل الفيلم في الشكل والزمان والأحداث.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsوفاة هوليود.. لماذا لم يعد أحد يصور الأفلام في لوس أنجلوس؟
مقال بنيويورك تايمز يحذر من السماح لشركة أمازون باحتكار صناعة السينما
الصناعة السينمائية الثقيلة في العالم العربي
وتساءل شاهين -الذي تحل ذكرى ميلاده في 25 يناير/كانون الثاني 1926- إذا كان من العدل أن يوصف فيلم يدعو إلى الصدق والإخلاص والجدية والعفة والتسامح وغيرها من القيم الفاضلة التي تبشر بها الأديان بأنه يسيء إلى مشاعر المؤمنين.
بعد بدء عرض الفيلم، رفع أحد المحامين دعوى لوقف عرض المهاجر، وبدأت حملة تخوين شاهين على صفحات الصحف، لأنه يسيء لحكام مصر من الفراعنة، كما يسيء للشعب المصري بقوله إن بطل الفيلم البدوي جاء ليعلم الفلاح المصري الزراعة، وأن شاهين يرمي للتطبيع مع إسرائيل من خلال استلهام قصة سيدنا يوسف عليه السلام، وفقا للناقد سمير فريد في كتابه "تاريخ الرقابة على السينما في مصر".
كان غريبا أن يرد شاهين بنفسه على الانتقادات لفيلمه، ويشرح ما يرمي إليه، وهو الذي اعتاد مواجهة تدخلات أجهزة الدولة الرسمية منذ أول أفلامه "بابا أمين" (1950)، والذي قدمه المخرج الشاب العائد من أميركا ولم يتجاوز سنه الـ24 من العمر، واضطر لتغيير نهاية فيلمه في النهاية رضوخا لتعليمات الرقيب.
انطلق شاهين إلى العالمية بفيلمه الثاني "ابن النيل" (1951) الذي عرضه مهرجان كان السينمائي، لكن القائم بأعمال السفير المصري في المجر رفض عرض الفيلم هناك وأرسل لوزارة الثقافة والإرشاد لمنع تسويقه لأنه "يسيء لسمعة مصر".
باب الحديد
كما واجه شاهين مشاكل مع الرقابة في فيلم "باب الحديد"، لأن الأمن العام طلب عدم التصريح بإخراج الفيلم لأسباب سياسية عليا، ومصدره أن العمال في ذلك الحين كانوا على عداء واضح مع الثورة بعد إعدام 3 من زملائهم في كفر الدوار، طبقا لكتاب "مائة عام من الرقابة على السينما المصرية" للباحث محمود علي.
ولم يلبث أن تم التصريح بتصوير الفيلم، وعُرض في دور العرض عام 1958، لكنه حقق إخفاقا تجاريا كبيرا، وهاجم الجمهور نجومه، بل قام البعض بتحطيم المقاعد في دار العرض، رغم الاحتفاء العالمي بالفيلم الذي عرضته المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي الدولي.
العصفور
في "العصفور" عبر شاهين عن صدمة نكسة يونيو/حزيران 1967، ورغبة الشعب في تحرير أرضه بالقوة، ومنعته الرقابة لأنه يهاجم ثورة يوليو/تموز 1952 ونظامها ورموزها بشكل مباشر، وقررت أن الفيلم لا يصلح للعرض العام في ظل ظروف البلاد السياسية الداخلية والخارجية المتخبطة، ثم سمح بعرض الفيلم عقب "نصر أكتوبر" في أغسطس/آب 1974.
وللمفارقة أن أغنية الفيلم "راجعين في إيدنا سلاح " -التي كانت تحث السلطة على الحرب- هي الأغنية التي أذيعت خلال حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 وفي كل ذكرى لها بعد ذلك.
ووفقا لبرنامج "خارج النص" من إنتاج قناة الجزيرة، فإن قرار منع "العصفور" جاء من وزير الثقافة يوسف السباعي الذي هدد بحرق النسخة الأولى للفيلم، كما تم اتهام صناع الفيلم بتلقي أموال من الخارج، حيث كان إنتاجا مشتركا مع الجزائر.
القاهرة منورة بأهلها
بعد احتفاء قصير في الصحافة المصرية باختيار الفيلم الوثائقي "القاهرة منورة بأهلها" للعرض في مهرجان كان السينمائي الدولي عام 1991، لم يلبث أن تحول لاتهامات بالإساءة لسمعة مصر في أكبر مهرجانات العالم، وطالب صحفيون بسحب جواز السفر المصري من شاهين أو على الأقل شطب عضويته في نقابة السينمائيين، وطالت الاتهامات الجهات الرسمية لسماحها لشاهين بتصوير الفيلم.
ورد هاشم النحاس رئيس المركز القومي للسينما أن شاهين صور الفيلم لحساب الإنتاج المشترك، وأخذ تصريحا بالتصوير مثله مثل أي أجنبي، مضيفا "يوسف شاهين مؤسسة في حد ذاته ولم يخضع في حياته لإجراءاتنا العادية".
ويحكي الكاتب بلال فضل أن حالة التردد والارتباك التي سادت الأداء الحكومي في مواجهة حرص وسائل الإعلام الأجنبية على تغطية ما يجري لأشهر مخرج مصري في العالم، ساعدت شاهين على الخروج من خانة الدفاع عن النفس، ليبادر إلى عرض فيلمه في نقابة الصحفيين، ويعلو تصفيق طويل بعد العرض تضامنا مع شاهين.
التقدير الأكبر
نال شاهين احتفاء عالميا لم يصل له مخرج مصري من قبل، حيث كرمه مهرجان كان عام 1997 بجائزة اليوبيل الذهبي عن مجمل أعماله، وشاركت 10 من أفلامه في نفس المهرجان، كما توج بجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين عن فيلم "إسكندرية ليه"، وهو المخرج صاحب الرصيد الأكبر من الأفلام في قائمة النقاد لأهم 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، وهي أفلام "الأرض" (المركز الثاني) "باب الحديد (المركز الرابع) "الناصر صلاح الدين" (المركز الـ11) "صراع في الوادي" (25) "إسكندرية ليه" (32) "العصفور" (45) "عودة الابن الضال" و"المهاجر" و"الاختيار" و"جميلة" (المراكز 51-52-53-54) "ابن النيل" (82) "حدوتة مصرية" (84).
اعتزاز بمصريته
ويرى تقرير نشرته "بي بي سي" (BBC) أنه بالرغم من عالمية روافد فكر يوسف شاهين؛ فإن اعتزازه بمصريته هو الذي ظهر في اختياراته لمواضيع أفلامه السياسية مثل فيلم "العصفور"، أو تناوله للصراع مع التطرف بفيلمه "المصير" (1997)، والذي جاء كرد فعل لمنع عرض فيلمه "المهاجر"، كما تناول علاقة العرب مع الغرب وتحديدا الولايات المتحدة من خلال أفلامه "مثل الآخر" (1999) و"إسكندرية – نيويورك" (2004).
الابتعاد عن الجمهور
محليا لا يزال شاهين يثير الكثير من الجدل عند مقارنته بكبار مخرجي السينما المصرية، وإن كان شاهين قد اقترب من الجمهور كثيرا ببعض أفلامه مثل "الأرض"، أو متناولا ملحمة تاريخية خالدة في "الناصر صلاح الدين"، إلا أنه ابتعد بأعمال أخرى عن القاعدة العريضة من الجماهير لا سيما في أفلام سيرته الذاتية "إسكندرية ليه" و"حدوتة مصرية" و"إسكندرية كمان وكمان" و"إسكندرية نيويورك"، وأثار جدلا بجرأته في تقديم ما ليس مسموحا لمخرج غيره تقديمه.
ويرى الكاتب الراحل أحمد خالد توفيق أن هناك ميزانَين في الرقابة، ميزان للعامة وميزان لشاهين، "لهذا تصفح القرابة بتسامح أسطوري عن العلاقات الأسرية المختلة في كل فيلم، وإن نظارة هيبة العبقرية وضعت على عين الرقيب فلم يعد يرى.. لماذا؟ لأنه يتعامل مع الأستاذ".
كما يقول الكاتب أسامة غريب في مقال له بعنوان "الخواجة يوسف شاهين" إن مشكلة شاهين أنه لم ينجح في تحويل الارتباك وعدم اليقين والتشوش العقلي الذي ينتاب العباقرة عادة إلى فن، بل نقله إلى الشاشة كما هو بدون أن يعيد تنظيمه، لذلك "لم تصل أعماله للجمهور ولا لأعضاء لجان التحكيم في المهرجانات الدولية"، على حد قوله.
تهمة متكررة
ولا تزال تهمة "الإساءة لسمعة مصر" تطارد مخرجي السينما المصرية من حين لآخر، وآخرها حملة الهجوم التي واجهت فيلم "ريش" عقب عرضه في مهرجان الجونة السينمائي قبل أشهر، رغم الاحتفاء به في مهرجان كان السينمائي، واتهمه فنانون بتشويه صورة القاهرة وتقديمه لعشوائياتها وفقرائها، وهي التهمة نفسها التي واجهها شاهين قبل عقود، لكن شهرته العالمية وتاريخه الطويل جعلته يحسم كل معاركه مع الرقابة لصالحه.