عندما تُفجر السينما الضحك والبكاء معا.. "ليمبو" حياة جديدة في أفلام اللاجئين
برز فيلم "ليمبو" للمخرج بن شاروك، الذي تدور أحداثه حول مجموعة من طالبي اللجوء في جزيرة أسكتلندية، بأسلوبه الفريد الذي يلقي الضوء على قضية متجذرة في الوعي الإنساني بقدر تجذرها في عالم السينما والأفلام الوثائقية.
وقال الكاتب جوزيف فهيم في تقرير نشره موقع "ميدل إيست آي" (Middle East Eye) البريطاني، إن الأفلام التي تركز على اللاجئين من أفريقيا والشرق الأوسط كانت موجودة قبل الحرب السورية بوقت طويل، لكن هجرة ملايين الأشخاص من سوريا والعراق وأفغانستان إلى أوروبا خلال السنوات الماضية غيّرت كثيرا من طبيعة تلك الأفلام.
اقرأ أيضا
list of 4 items"الترحال".. رحلة الكاميرا في أحزان اللاجئين بمخيمات الروهينغاسيتم فتح هذه المقالة في علامة تبويب جديدة
هربا من الخطر إلى المجهول.. 10 أفلام تجسد آلام اللاجئين على شاشة السينما
"فندق اللاجئين".. ملاذ اللاجئين السوريين في إيرلنداسيتم فتح هذه المقالة في علامة تبويب جديدة
وقد تناول عدد كبير من الأفلام الوثائقية من جميع أنحاء العالم هذا الموضوع لدرجة استنزافه، مع تركيز كثير منها على الترشح لنيل الجوائز العالمية المرموقة، سواء بهدف تحقيق المكاسب المادية، أو تحقيق الانتشار، أو الرغبة الحقيقية في رفع مستوى الوعي العام بقضايا الهجرة.
لكن قطار أفلام الهجرة واللجوء اللاجئين الذي سار بسرعة هائلة سابقا، بدأ في التباطؤ -حسب رأي الكاتب- حيث تقلص حماس المنتجين وتحوّل تعاطف الجمهور الليبرالي إلى نوع من اللامبالاة.
غير أن مخرجا أسكتلنديا تمكّن من بث الحياة مجددا في هذا النوع من الأفلام من خلال التركيز على زاوية جديدة لم يقترب منها أحد قبله: الكوميديا.
ويرى الكاتب أن فيلم "ليمبو" يتميز خلافا لغالبية أفلام اللاجئين التي تم إنتاجها في أعقاب الحرب السورية، بأنه لطيف ولاذع في الوقت ذاته، وهو مضحك بشكل صاخب، لكنه يحمل إحساسا مرهفا.
ارتباك وإحباط
يقول الكاتب إن الفيلم يبدأ بصورة لوجه سعيد مرسومة بالطباشير على صبورة. رجل أبيض في منتصف العمر (كينيث كولارد) وامرأة (سيدس بابيت نودسن) يرقصان على أنغام أغنية البوب الشهيرة لفرقة "هوت تشوكليت" (Hot Chocolate) "إت ستارتد ويذ إي كيس" (It Started With A Kiss).
يمرّ المشهد أمام جمهور من الرجال ذوي البشرة السوداء الذين توحي ملامحهم بأنهم من الشرق الأوسط، وكانوا يحدقون في الثنائي بمزيج من الحيرة والإحباط، نظرة الإنسان المرهق الذي يتساءل عن مصيره.
يحدث كل ذلك في جزيرة أسكتلندية شبه مهجورة تُعالج فيها طلبات اللجوء، دون تحديد إطار زمني للأحداث. يتم ترحيل البعض، في حين يتم تكليف الآخرين بوظائف وضيعة، ولا يصل إلا قلة منهم إلى الحياة المترفة التي كانوا يتطلعون إليها.
ويركز المخرج بن شاروك في الفيلم على عدد من الشخصيات. حيث يحلم واصف (أولا أوربيي) القادم من نيجيريا بأن يصبح لاعب كرة قدم محترفا مع فريق تشيلسي، الأمر الذي يثير استياء شقيقه عبيدي (كوابينا أنساه) الذي يبدو أكثر واقعية.
أما فرهاد (فيكاش بهاي) القادم من أفغانستان، فإن الصلة الوحيدة التي تربطه بالمملكة المتحدة هي حبه للمغني فريدي ميركوري، الذي يشترك معه في الشارب والديانة الزرادشتية نفسيهما.
ثم هناك عمر (أمير المصري صاحب الجنسيتين البريطانية والمصرية) عازف العود السوري العاطفي الهادئ ذو العينين المرهقتين، المثقل بماض صعب.
جميع الشخصيات تقطعت بهم السبل في هذه الجزيرة الخلابة الخالية من الحياة، في انتظار حدث يغيّر حياتهم.
في البداية، يبدو أن عمر هو الرجل الحكيم الوحيد في أرض الحمقى، فهو يقضي جزءا كبيرا من الوقت في الرد على المهازل التي يشاهدها. لكن تدريجيا، بدأت حياة طالبي اللجوء تتحوّل من الكوميديا إلى التراجيديا.
مقارنات مع غودو
يشير الكاتب إلى أن بداية الفيلم تحتوي على الكثير من النكات اللاذعة حول العنصرية والنفاق الأخلاقي الأوروبي وفقدان الصواب السياسي.
وحسب رأيه، يستحق بن شاروك الثناء لأن الكوميديا السوداء في الفيلم لم تنحدر قط إلى مستوى ذوقي متدن. يقول أحد الأخوين النيجيريين "أتعلم، كانت لدينا إشارة أفضل في البحر الأبيض المتوسط". ويقول فرهاد لعمر "اعتقدت أنهم سيبسطون السجادة الحمراء من أجل السوريين.. ربما أتيت متأخرا بعام".
وفي أكثر الأفلام التي تتناول قضايا المهاجرين، يتم التركيز على معاني الإذلال والتمييز الذي يتعرض له اللاجئون، أما بن شاروك فقد اعتمد أسلوب أقل وضوحا وأكثر عمقا، حيث حاول فهم الجوانب اللامعقولة والأكثر غرابة في تجارب اللاجئين، وهذا ما حرّك خيوط الكوميديا في الفيلم.
ويعتقد الكاتب أن كوميديا بن شاروك تجد جذورها في أعمال الفرنسي جاك تاتي، وأفلام المخرج الفلسطيني إيليا سليمان، وتأملات الكاتبين آكي كوريسمكي والسويدي روي أندرسون. ومع ذلك، يختلف أسلوبه في كيفية تأصيل الكوميديا في الواقع بشكل خال من السريالية التي اعتمدها من سبقوه.
ويقارن العديد من النقاد فيلم "ليمبو" بمسرحية "في انتظار غودو" لصمويل بيكيت، ولكن هناك فرق رئيسي بين الاثنين. ففي مسرحية "في انتظار غودو"، ينتظر ديدي وغوغو الرجل الذي لم يصل أبدا عن طيب خاطر، في حين يُفرض هذا الانتظار على طالبي اللجوء في فيلم "ليمبو".
لاجئو بن شاروك لا يتمتعون برفاهية الرهبة الوجودية التي حظي بها أبطال بيكيت، فتطلعاتهم متواضعة وأحلامهم محدودة وماضيهم لم يتوقف عن مطاردتهم بعد. وعلى عكس مسرحية "في انتظار غودو"، هناك خصم غير مرئي يهدد وجودهم: الترحيل والطرد والرفض.
يضيف الكاتب أن قصة عمر لا تختلف عن قصص ملايين السوريين الذين تركوا منازلهم للبحث عن حياة آمنة. والداه عالقان في تركيا وحائران بين خياري العودة إلى سوريا حيث بقي ابنهما الأكبر (قيس ناشف) لمحاربة نظام الأسد، والبحث عن حياة جديدة غامضة في أوروبا.
حوصرت جميع شخصيات الفيلم، سواء ظهرت على الشاشة أم لا، في مثل هذه المرحلة الانتقالية الطويلة. لذلك فإن فيلم "ليمبو" لا يروي قصة لجوء، بل يعطي صورة نفسية عن تجارب اللاجئين، ويرسم ملامح علاقة جنوب الكرة الأرضية بالغرب.
محنة الانتظار
يتطرق بن شاروك إلى جانب أساسي من علاقة الشرق الأوسط بأوروبا والغرب، وهي المحنة العاطفية لمرحلة الانتظار، حيث يدرك المرء أن مصيره ليس بيده، وأن الاختيار ليس حقًا، بل هو ترف لم يعرفه هؤلاء اللاجئون وعائلاتهم.
بالنسبة لمواطني جنوب الكرة الأرضية، فإن السباق لدخول "جنة الغرب" يعني الانخراط في جحيم لا نهاية له، على أمل أن يدرك طرف فاعل محنتهم ويعترف بإنسانيتهم.
يشدد المخرج على تلك الأبعاد الإنسانية ويركز عليها بطرق شتى. طوال الفيلم، لا يخفي اللاجئون شغفهم بكرة القدم الإنجليزية، ويكثرون من مدح ملكة بريطانيا، ويتحدثون مطولا عن تفاصيل المسلسلات الغربية مثل "الأصدقاء" (Friends).
وعلى عكس معظم الأفلام الغربية الأخرى، يبتعد "ليمبو" عن تصوير طالبي اللجوء من غير البيض بشيء من الشفقة أو الاستعلاء.
ويسير الفيلم -حسب الكاتب- وفق نمط سردي ثابت ومحكم، إلا فيما يتعلق بشقيق عمر الذي بقي في سوريا، والذي لا تتوافق مواقفه مع أي فصيل موجود في واقع سوريا المعقد.
ومع إعادة انتخاب بشار الأسد لولاية رئاسية رابعة في سوريا، وبما أن الغرب أصبح يتعامل مع نظام الأسد كواقع لا مفر منه، فإن فكرة البقاء في سوريا أو العودة إليها بهدف "القتال" تبدو فكرة خاطئة تماما في الفيلم. ولا تتعلق محنة عمر بالرغبة في خوض قتال عبثي، بل هي معضلة أخلاقية بحتة تتعلق بالتزاماته تجاه عائلته وموطنه الذي لا بديل له عنه.