"ارتبط روحيا بمدينة القدس".. رحيل شيخ الفنانين التشكيليين الأردنيين رفيق اللحام

من فرط حبه للقدس وترابها وأسواقها وتاريخها وجمالها، رسم المدينة المقدسة في عدد من الحالات التي كانت تمليها عليه الأحداث والمشاعر والحالة النفسية، فرسمها جريحة وأسيرة ومقاومة.

الفنان التشكيلي الأردني محمد رفيق اللحام
رفيق اللحام استحضر القدس في أغلب أعماله وتحدث عنها كآية عمرانية تشكل مرجعا لجماليات الفن (مواقع التواصل)

عمان – ربما يكون الفنان التشكيلي الأردني الرائد محمد رفيق اللحام (1931-2021) أغمض عينيه في رحلته الأخيرة وهو يحلم أن يصلي في القدس الأسيرة التي كانت تمثل موضوعه الأثير الذي لا يغيب عن باله ولا عن أعماله التشكيلية أو أحاديثه في الفن.

رفيق اللحام الذي توفي في عمان أمس الجمعة (30 يوليو/تموز 2021) كان لحبه وحزنه على المدينة الأسيرة يستحضرها في أغلب أعماله التي تعدّ بالمئات، يتحدث عنها كآية عمرانية تشكل مرجعا لجماليات الفن، ويقول "لو مكث الفنان فيها عشرات السنين لما استطاع أن يفيها حقها في التقاط جمالياتها لأن كل زاوية فيها تمثل لوحة فنية وجمالية".

وفي أحد اللقاءات، قال رفيق اللحام إنه زار القدس بعدد اللوحات التي رسمها وهي بالمئات وربما نافت على الألف، بين "إسكتش" ولوحة، ووثقها بكل التقنيات والأساليب، ومنها اللوحة والملصق والطابع. وهي في نظره "مركز العالم"، فمع أنه "زار العالم كله فإنه لم ير مثل جمال مدينة القدس"، ويستدرك "أعرف القدس بالشبر".

الفنان المولود في دمشق ودرس فيها تصميم العمارة كان واحدا ممن وضعوا حجر الأساس للفن التشكيلي في الأردن مطلع الخمسينيات، وكان وقتئذ لا يفصل بين فلسطين والأردن سوى النهر المقدس الذي يمتد على ضفتيه جناحا الوطن، فألف زيارتها وأحب جمالها.

ولما احتلت القدس كان يرى أن المدينة ليست مجرد مكان، بل هي روح أبدية كما هي عاصمة أبدية و"كائن حي يبكي ويحزن"، ويعدّ القدس مركز إشعاع للنور والهداية والجمال والطمأنينة، وهي التاريخ الذي ابتدأ بالتوحيد و"صورتنا ووجعنا نرسمها بماء القلب"، ومن هنا بدأت رحلة الفنان مع القدس التي حاول استعادتها على سطح اللوحة بكل أشكالها وحالاتها.

لوحة للفنان التشكيلي الأردني محمد رفيق اللحام
القدس عندما احتلت حاول الفنان التشكيلي رفيق اللحام استعادتها على سطح اللوحة بكل أشكالها وحالاتها (مواقع التواصل)

القدس الجريح

ومن فرط حبه للقدس وترابها وأسواقها وتاريخها وجمالها رسم المدينة المقدسة في عدد من الحالات التي كانت تمليها عليه الأحداث والمشاعر والحالة النفسية.

فقد رسمها جريحة وأسيرة ومقاومة، وفي كل الحالات كانت صورة القدس في اللوحة لا تنفصل عن هويتها العربية، فهو يمزج بين مفردات التراث الحروفية والزخرفية، لتأكيد هوية المدينة العربية، ويؤنسن المكان الذي يتحول إلى كائن يشعر بالحزن والقهر والألم، ويعاني الأسر، فيرسم الصخرة وهي تصرخ من وراء القضبان التي تحاصرها وتقيدها بسلاسل الاحتلال، ويرسم القدس في حدقة العين باكية في لوحة بالأبيض والأسود.

تقول سعاد العيساوي، مديرة غاليري رؤى الذي نظم معرض "القدس بوابة السماء" وكانت آخر مشاركة للحام فيه الشهر الماضي، إنه "كان متحمسا للمشاركة في المعرض وهو في العقد التاسع من عمره، كونه يحمل اسم القدس، تعبيرا عن التزامه بالقضية الفلسطينية وقضية القدس".

كان رفيق اللحام من مؤسسي ندوة الفن الأردني في الخمسينيات من القرن الماضي التي أسست للوعي التشكيلي في الأردن، ورابطة التشكيليين الأردنيين مع عدد من الرواد، واتحاد الفنانين التشكيليين العرب، وحرص بتمثيله الأردن في المعارض الدولية على أن يخصص ركنا للقدس للتذكير بمأساة المدينة في المحافل الدولية.

الفنان التشكيلي الأردني محمد رفيق اللحام
الفنان المولود بدمشق كان واحدا ممن وضعوا حجر الأساس للفن التشكيلي في الأردن مطلع الخمسينيات (مواقع التواصل)

ارتباط روحي بالمدينة

ركز رفيق اللحام -الذي درس فن الرسم في إيطاليا وفن الحفر في أميركا- في أعماله التشكيلية عن القدس على إبراز الجانب الهندسي العمراني الذي يحقق التناغم بين الكتل والفراغ وبلاغة الإيقاع الذي يمنح المشاهدة بعدا موسيقيا يمكّن الفنان من توظيف تدرج اللون، وتوزيع المساحات بصريا، وأيضا إبراز الملمح العربي والإسلامي الذي يدل على هوية المكان.

ويقول الفنان التشكيلي والناقد غازي انعيم إن الفنان رفيق اللحام "ارتبط روحيا بمدينة القدس التي زارها مرات متعددة قبل احتلالها، فرسم قبة الصخرة والمسجد الأقصى وعمارات القدس والكنائس في عشرات اللوحات على خلفية ألوان أنيقة وجذابة؛ يتقدمها الأبيض الناصع في الأعمال الغرافيكية والبني والأزرق والأصفر والأحمر في الأعمال الزيتية إلى جانب الزخارف، لتكشف عن خبرة ماهرة في إبداع لوحة فنية عكست شتى انفعالاته المختلفة، وظلّت القدس تتردد في لوحات اللحام باستمرار".

وقد اختارت منظمة اليونيسيف واحدة من أعماله التشكيلية التي رسمها عن المدينة المقدسة، ووزعت منها عشرات الآلاف على شكل (بطاقات بريدية) تصوّر القدس والقبة بملامحها العربية الإسلامية من خلال الخط العربي والزخرفة.

القدس مرجعية اللوحة

وكانت القدس لدى الفنان -الذي فازت لوحته عن القدس بجائزة بينالي مسقط بسلطنة عمان- تمثل مرجعية جمالية وتقنية، وفي الوقت نفسه تدل الفنان على العتبة التي يمكن أن تقوده إلى اكتشافات أسلوبية تعبر عن ذاته الثقافية العربية في مفرداتها الحروفية والزخرفية والنقوش والألوان ونمط العمارة والإضاءة التي تميز جماليات القدس.

ويقول الفنان التشكيلي والناقد غسان مفاضلة إن المدينة المقدسة "ظلت حاضرة على الدوام طوال مسيرة الفنان الراحل رفيق اللحام منذ بداية خمسينيات القرن الماضي، باعتبارها موضوعا تعبيريا قابلا للمعاينة والتشكيل وفق رؤيته الفنية وتقنياته المتنوعة في الرسم والحفر على وجه الخصوص".

وأضاف "وعلى الرغم من تناول اللحام العديد من الموضوعات المتنوعة في رسومه، مثل الحياة الشعبية والبدوية في الأردن وفلسطين، فإن الحضور الأثير لمدينة القدس في جلّ أعماله الغرافيكية خاصة جاء ضمن اتصال تجربته والتصاقها بشروطها الاجتماعية والتاريخية، وذلك بالتساوق مع سعيه الدؤوب للكشف عن جذور تشكيلية عربية معاصرة في لغتها وكشوفها الجمالية".

لوحة للفنان التشكيلي الأردني محمد رفيق اللحام
اللحام رسم القدس بحدقة العين باكية في لوحة بالأبيض والأسود (مواقع التواصل)

الفن وسيلة دفاع عن قضيتنا

صمّم رفيق اللحام عشرات من الميداليات التذكارية والطوابع و"النميات" الخاصة، ومثلت تجربته التشكيلية في تصويره للقدس ابتعادا عن الرسم الاستشراقي التزييني، وذهب في محاكاة قواعد الفن الإسلامي في العمل على السطح والتكرار وملء الفراغ والبعد عن التجسيد، كما مثلت جانبا نضاليا في كونها وثيقة تؤرخ لمفردات المكان بمآذنها وقبابها وأسواقها وشوارعها بظلال الحروف والزخارف التي تؤكد هويتها العربية.

وتقول الفنانة التشكيلية أسيل عزيزية إن رفيق اللحام هو "رفيق القضية الفلسطينية وتاريخه الطويل ومسيرته الفنية ما هما إلا تأكيد لأهمية القدس ومكانتها، إذ تجلّت على سطح لوحته التي قدمها بأساليب وتقنيات متعددة، موثقا هوية المدينة العربية الإسلامية، وإن رفيق اللحام كان مدرسة للأجيال من خلال رحلة عطائه الغزير ومسيرته الفنية مؤمنا بدور الفن في الحفاظ على قضيتنا وموروثنا والدفاع عنهما".

المصدر : الجزيرة