أفلام فلسطينية قصيرة.. كيف جعلت من السينما أداة للمقاومة؟
السينما ينبغي أن تظل وسيلة فنية يومية تصنع الجمال وتعمل بشكل يومي على مقاومة التحجر والتكلس اللذين يطبعان السلطة بكافة ألوانها.
لم تكن السينما يوما -عبر تاريخها الجريح- تعيش نزعة انفصامية بين صناعتها ومتخيلها وبين ما يشهده واقعها من تفكك اجتماعي وأحداث سياسية مأساوية. هذا ما تبرزه أفلام سينمائية عالمية جعلت من واقعها العيني مختبرا للتشريح الاجتماعي والتخييل البصري المستند على مفاهيم جمالية وأدوات فنية، لا تقف سادرة عند حدود الواقع، بل تتجاوزه توثيقا وتخيلا.
والسينما -بوصفها أبرز دعائم الحداثة في الزمن المعاصر- لم تجعل من نفسها يوما آلة بصرية للمتعة والاستجمام والترفيه والاستهلاك على الخلفية الإبستمولوجية، التي انتقدتها بقوة مدرسة فرنكفورت مع رائدها المفكر الألماني تيودور أدورنو (1903-1969)، بحيث كان النقد لاذعا للسينما التجارية الأميركية، التي حاولت منذ سبعينيات القرن الـ20 تنميط الفن السابع داخل الأستوديو وجعله بعيدا عن الواقع الأميركي وما يحبل به من انتكاسات وتناقضات.
اقرأ أيضا
list of 4 items4 أفلام لتخفيف وطأة انفصال الوالدين على الأبناء.. لا تفوتوها
هربا من الخطر إلى المجهول.. 10 أفلام تجسد آلام اللاجئين على شاشة السينما
أفلام وثائقية وتسجيلية توثق آخر 40 سنة من عمر الوطن العربي
جاء رد أدورنو على أساس أن السينما ينبغي أن تظل وسيلة فنية يومية تصنع الجمال وتعمل بشكل يومي على مقاومة التحجر والتكلس اللذين يطبعان السلطة بكافة ألوانها، فالسينما بحكم شعبيتها تمتلك قدرة رفيعة على اختراق مكبوت المجتمعات العربية والتأثير في مخيلتها لأنها تحصنها بأدوات تحليلية، تجعلها تقاوم كل أشكال التفاهة المقننة ومظاهر الانحطاط، التي تعمل السلطة على نشرها.
أفلام فلسطينية قصيرة
في الأفلام الخمسة المعروضة قبل أسابيع ضمن مؤسسة الفيلم الفلسطيني لكل من نجوى نجار "نعيم ووديعة" وسينا سليمي "بلا سقف" ورمزي مقدسي "حجر سليمان" ووسام الجعفري "أمبيانس" وعايدة كنعان "فراولة"؛ ترصد الصورة السينمائية مصائر شخصيات فلسطينية تتوزع زمنيا بين الماضي والحاضر، فهي تارة تأتي كتأريخ وتوثيق للحظة وعنفها، وتارة أخرى على شكل حكاية متخيلة وواقعية تدين قهر الاحتلال وتعري مزالقه وأعطابه، لكنها جميعا تلتقي حول موضوع واحد يكمن في تأجيج كل أشكال المقاومة.
وتشكلت المنطلقات الفنيّة والجمالية لتلك الأفلام وحددتها "مؤسسة الفيلم الفلسطيني" وتزامن عرضها ووقعها مع الهبّة الأخيرة التي شهدتها بعض المدن الفلسطينية.
وبالرغم من أن هذه الأفلام المعروضة لا علاقة مباشرة تجمعها بالانتفاضة بحكم أنّها صورت منذ سنوات؛ فإن المدقق في مشاهدتها لا يلبث أن يكتشف حجم التماهي، بين الشخصيات والواقع العيني الذي ينتمون إليه، بما يجعل هذه الأفلام القصيرة كشكل من أشكال المقاومة ذات العلاقة المركزية بحاضر التاريخ الفلسطيني سياسيا واجتماعيا.
ولأن تاريخ عرضها قد تزامن مع أحداث الهبّة، فقد جعلها ذلك أكثر التحاما بالواقع الراهن، بحيث جاء وقعها كتذكير لمختلف أشكال النضال الفلسطيني ومدى أهمية السينما ومركزيتها في التاريخ الفلسطيني كسلطة فنية وجمالية تقاوم الآلة الصهيونية.
من ثم، يسجل المشاهد العربي حجم تماهي مقاومة الشخصيات داخل الأفلام القصيرة وبين الشخصيات الواقعية داخل المشهد الفلسطيني إبان الهبّة، وكأن لا وجود لأي حدود بين الواقعي والتخيلي في سيرة الفرد وعلاقته بالمقاومة الفلسطينية وتحررها.
السينما مقاومة
إن السينما -وهي تستند على التخييل كعميلة وجودية- لا تلبث أن تجد نفسها -بطريقة غير مباشرة- تُحاكي الواقع بكل مطبّاته ومآزقه، لأنّ المنطلق الواقعي الذي نظنّ أننا نسيناه يتسرب إلينا عبر لاوعي الصورة، فهي هنا تأتي لتبوح لا لتضمر، بل إنها شكل من أشكال إدراك العالم، حيث تتحول صور الفيلم -في تسلسلها الكرونولوجي- إلى لحظات واقعية هاربة ومنفلتة من قبضة المنطق وسلطة العقل القاهرة، إذ تبرز كل صورة واقعا قائما بذاته، وإن بدت صوره متناقضة، فلأن الوقائع داخل السينما زئبقية بطبعها وتتطلع دوما إلى مختلف أشكال التحول والتلون.
لكن ما يجدر الانتباه إليه، هو أن المقاومة في السينما لا تتمظهر دوما بشكل واقع وفج، فالوسيط البصري (الصورة) يجعل السينما أكثر تخييلا حتى لو كانت منطلقاتها واقعية. وإذا كانت السينما المصرية منذ بداية السبعينيات إلى نهاية التسعينيات وجدت نفسها في التحام كلي مع مكونات الواقع سياسيا واجتماعيا، إما على شكل رصد أو "تأريخ" أو توثيق أو تخييل، بحكم أنها ظلت بشكل أو بآخر أكثر ارتباطا بالواقع، وهو ما أنتج أفلاما عديدة تنعت اليوم داخل الأدبيات النقدية بـ "السينما الواقعية"، فالواقع السينمائي معطى فيزيقي لا يدرك فكريا أثناء الكتابة أو التصوير، ولكن لحظة المشاهدة، حيث يعاين المشاهد أن الفيلم يعطي صورة عن مجتمع عربي ما في لحظة من تاريخه الراهن.
إلا أنّ المُثير للانتباه داخل أفلام صلاح أبو سيف وداود عبد السلام ويوسف شاهين؛ هو أن هذه السينما "الواقعية" تأتي كفعل للمقاومة وطريقة للتعبير عن العالم، إنها تبرز بقوة موقف المخرج من المجتمع وطبقاته والأنظمة وسياستها، فتصبح السينما وسيلة لمقاومة الموت ومختلف أشكال التنميطات السياسية والاجتماعية والثقافية.
الحالة الفلسطينية
أما في حالة السينما الفلسطينيّة، فالأمر مختلف، بحيث تغدو المقاومة قضية مركزية داخل المنجز السينمائي قديما وحديثا، لا كخيار جمالي يعمد إليه المخرج للتخييل فقط، ولكن كمحاولة لنقد الوقائع وإدانة التاريخ بكل مآزقه وأعطابه وترسباته.
هذا الأمر تظهره بقوّة الأفلام الفلسطينيّة الخمسة القصيرة، خاصّة أنّ نيّة عرض الأفلام جاءت مترادفة مع تفاقم العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزّة، إذ يأتي الفعل السينمائي هنا كمقاومة لخراب جسد يئن تحت وطأة القهر والاحتلال.
ولا يخفى أن السينما لعبت دورا كبيرا في تاريخ فلسطين، فقد استطاعت صورها إعادة كتابة تاريخ جديد أكثر تحررا من التنميطات الغربية، تاريخ ترويه السينما وهي تعمل على تخييل قصص مستلة من الحاضر الفلسطيني، لا لتأريخ اللحظة، ولكن لمساءلتها والتفكير في ماهيتها والميكانيزمات التي تحركها، بما يجعل متخيل الصورة السينمائية أداة للمقاومة ونزع القداسة عن التاريخ ومختبرا للحكي والتجريب.
تغدو المعادلة البصريّة عبارة عن سلطة (الصورة) في مواجهة سلطة، فيكون التأثير كبيرا في الثانية، لأن المتلقي يصبح مشاركا ثالثا في تحديد ميزان القوى على مستوى تفاعله مع الفيلم.