ثلاثية الصعود والسقوط.. أحدث الأعمال الفنية للتونسي نضال شامخ

(الصور من غاليري سلمى فرياني في تونس)
شامخ يوظف الغابة لتكون مسرح الأحداث في عمل جديد له، وأثر الإنسان عليها (غاليري سلمى فرياني)

يظل بناء اللوحة الثلاثية "التربتك"، بما يضم من لوحة مركزية وعملين آخرين يمثل كل منها جناحا على الجانبين، من الأعمال الفنية التي تتحدى المتلقي ببنيتها وتدفعه إلى التفكير في تصميم القطعة ومعناها وحركتها وارتباط كل لوحة بالأخرى.

وفي غرفة العرض التي يتيحها "غاليري سلمى فرياني" في تونس للمشاهدة الافتراضية، تُعرض حاليا أحدث أعمال التربتك للفنان التونسي نضال شامخ (1985)، تحت عنوان "ثلاثية الصعود والسقوط"، ويتواصل عرضها حتى الثاني من مايو/أيار المقبل، وفيها أعمال أنجزها الفنان خلال فترة إقامته الفنية العام الماضي في بلدة سان نازير بغرب فرنسا.

لدى إقامته في سان نازير، نقّب شامخ في تاريخ المدينة نفسها وأرشيفها وصورها الفوتوغرافية، ليكتشف أنه في مدينة أساسية في تاريخ المنطقة، فقد ظلت لأمد طويل أهم مرفأ على نهر اللوار، ومركزا أساسيا لبناء السفن، وتوسعت بعد الثورة الصناعية بشكل كبير، واكتسبت موقعا مهما خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية.

ثيمات اللوحة الثلاثية

يتعقب الفنان في ثلاثيته حداثة أوروبا من خلال تعقب تاريخ سان نازير نفسه، وهي المدينة التي تقول الدراسات البيئية المختلفة إنها مهددة بالغرق تحت الماء بحلول نهاية القرن الواحد والعشرين، ومن هنا يأتي عنوان المعرض الذي يقارب فكرة تحول مكان بعينه من أن يكون مركزا إلى أن يصير هامشا ثم مستقبل الزوال الذي ينتظره متنقلا في الثلاثية بين 3 ثيمات هي الحرب والازدهار ثم الغرق.

تظهر ثيمة الحرب في اللوحة الأساسية وسط الثلاثية، نرى غابة سان نازير خلال غارة من غارات الحرب العالمية الأولى، وفي قلبها سقطت إحدى طائرات القوات الألمانية، إذ يحاكي الفنان إحدى الصور الفوتوغرافية التي التقطها الجيش الألماني ثم صادرتها السلطات الفرنسية بعد أن انتهت الحرب، فيقف أمام صورة فيها غابة لم يعد لها وجود على أرض الواقع، اختفت الأشجار منها بعد أن استخدمت كمادة خام خلال الحرب لبناء الملاجئ والخنادق.

يعيد شامخ إنتاج الصورة وبالتالي يستعيد لحظة من حياة تلك الغابة المفقودة ووجودها، ويختار لتحقيق ذلك تقنية بودرة الغرافيت على الورق، وهي ذات لون رمادي معدني باهت، تعطي انطباعا بالهشاشة ومرور الوقت وبهتان الألوان، فتظهر اللوحة كما لو أنها صورة فوتوغرافية قديمة ممحوة.

أما اللوحة إلى اليمين في تلك الثلاثية، فتعتمد على صورة أخرى عثر عليها الفنان تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، تظهر جانبا من صناعة السفن التي كانت مزدهرة في تلك المدينة والتي تقوم اليوم على أكتاف آلاف العمال المهاجرين العاملين بأجور زهيدة.

وفي اللوحة اليسرى لهذا "التربتك"، عمل يجسد حال المدينة اليوم الذي شهده الفنان أثناء إقامته فيها، حيث رأى بنفسه الطرق الخربة التي تصدعت بفعل ارتفاع الماء في المدينة إثر التغيرات المناخية والاحتباس الحراري الذي يؤثر على سان نازير، والذي جعل وكالة البيئة الأوروبية تعلن العام الماضي إمكانية نهاية المدينة بالغرق تحت الماء.

(الصور من غاليري سلمى فرياني في تونس)
لوحة تجسد جانبا من صناعة السفن التي كانت مزدهرة في الخمسينيات والتي تقوم اليوم على أكتاف العمال المهاجرين (غاليري سلمى فرياني)

تجربة جديدة

على الرغم من أن معرض شامخ تجربة جديدة تفكر في الحداثة الأوروبية وما تلاها من تغيرات جارفة تلخص العنف والاقتصاد ومشاكل البيئة، فإن من الصعب فصله عن نماذج عمله السابقة من حيث التقنية والموضوع أيضا.

ونذكّر هنا بشكل خاص معرضه السابق "وجوه" الذي أقيم في الغاليري نفسه، وفيه قام بزيارة الـ"كاليه"، الغابة التي عاش فيها المهاجرون الفارون خلال أزمة 2015، وفي ذلك المعرض كان شامخ يفكر في مواجهة القادمين بيأس من البحر وعزلهم في مخيم اعتباطي في الغابة، حيث كانت أعمال تلك المجموعة تقوم على آثار المهاجرين التي تركوها.

للمرة الثانية يوظف الفنان التونسي المعاصر الغابة، لتكون مسرح الأحداث في عمل جديد له وأثر الإنسان عليها.. في الأولى كلاجئ مقيم فيها، وفي الثانية كمدمر لها في الحرب، وليست الغابة إلا رمزا مركبا للحضارة والبعد عنها في آن، وللتشابك المركب بين تاريخ أوروبا وتاريخ الجنوب، حروبا واستعمارا ومهاجرين.

فمنذ بداياته التي انطلقت مع الثورة التونسية، يحمل مشروع شامخ أسئلة سياسية في المقام الأول، حول علاقة الإنسان بالمكان، وعلاقة السلطة بالإنسان، والحياة اليومية في ظل صراعات كبرى كالحروب والدكتاتورية والهزيمة والهيمنة واللجوء.

المصدر : الجزيرة